هل الأخلاق مطلقة ام نسبية _مقالة متوقعة جدا في
البكالوريا 2021
مقدمة / إذا تأملنا تصرفات الناس ، نجد أن كل واحد
من أفراد المجتمع يتصورالخير و الشر من زاوية مختلفة ، فما يراه البعض خير و فضيلة
، يراه آخرون شر و رذيلة، فندرك أن هناك مشكل في الأخلاق يستدعي منا البحث و
التأمل ، و لا يمكن أن نكون تصوراً واضح عن هذا المشكل إلا بالنظر إلى مواقف
الفلاسفة : فهل القيمة الخلقية نسبية متغيرة أم مطلقة ثابتة ؟
طرح القضية الأولى / القيمة الخلقية نسبية و
متغيرة لأن أساسها المنفعة و المجتمع و كلاهما متغير و نسبي.
الأساس النفعي ( مذهب اللذة) / مصدر القيمة
الخلقية (المنفعة) بمعنى أن الخير هو اللذة و الشر هو الألم والعبرة بالنتائج و
ليس بالمبادئ ، و الدليل على ذلك واقعي حيث أن الناس يميلون إلى اللذة و ينفرون من
الألم بحكم طبيعتهم ..يقول أرستيب القورينائي Aristippe (435-355) مؤسس مذهب اللذة ، (اللذة صوت الطبيعة )، و يجب
الحصول عليها بكل الطرق ،و أن إشباع الغرائز ضروري لأنها المحرك الأساسي للأفعال
الإنسانية.
أمّا أبيقــــورEpicure فيرى أن الخير في سكينة النفس ، فهي أفضل و أولى
لأنها دائمة يُمكن إحياؤها في الذاكرة كل مرة و هكذا نكون سعداء، مثل لذة المعرفة
، و المطالعة ، و المحبة و الصداقة ، و يدعو إلى اجتناب اللذات التي تنتهي بألم ،
مع قبول الألم الذي يؤدي إلى لذة.
بنتــــام Benthame حول
اللذة إلى المنفعة العامة ، فوضع بذلك مسلمتين للفعل الأخلاقي ، مسلمة فردية تقول
بأن لكل فرد الحق في الحكم على لذته ، و مسلمة جماعية تقول أن اللذة إذا اتحدت
شروطها أصبحت واحدة بالنسبة للمجتمع ، فربط بنتام بين خير الفرد و خير الجماعة .و
وضع سبعة أبعاد لقياس اللذة و هي الشدة المدة -النقاء -الخصب- القرب -اليقين
والإمتداد أي شمول اللذة لأكبر عدد من الناس.
نفس المبدأ يدافع عنه ج س ميل
J.S.Mill فالمنفعة هي المبدأ الأخلاقي الذي يفضي إلى تحقيق
أكبر سعادة ممكنة ، فالخير ما هو نافع لنا و لغيرنا (المنفعة المتبادلة). كما اهتم
ميل Mill بنوعية اللذات لا كميتها يقول
" من الأفضل أن أكون إنساناً شقيا من أن أكون خنزيرا متلذذا" و ما دامت
المنفعة متغيرة و مختلفة من شخص لآخر كانت القيمة الخلقية نسبية
.
الأساس الاجتماعي / إن أساس القيم الخلقية هو
(المجتمع) ، فالخير ما يتماش مع العرف الاجتماعي ، و الشر ما يتنافى معه، هذا ما
تراه المدرسة الوضعية مع اميل دوركايم ،E.Durckeime و
ما يدعم هذا الموقف هو أن الفرد كائن اجتماعي بالطبيعة ، لا يستطيع العيش خارج
الجماعة فهو بمثابة الجزأ من الكل ، إنه مدين للمجتمع بكل مقوماته النفسية و
العقلية و السلوكية ، يتأثر ببيئته ، و يتصرف حسب الجماعة التي ينتمي إليها فلولا
الغير لما كان بحاجة إلى الأخلاق .
إن الطفل يكون فكرته عن الخير و الشر بالتدريج
اعتمادا على أوامر ونواهي أفراد مجتمعه ، سواء في الأسرة أو المدرسة يقول دوركايم
" عندما يتكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا " بمعنى أن الضمير
الفردي ما هو إلا صدى للضميرالجمعي . و على هذا الأساس لا يمكن للفرد أن يبتكر
لنفسه قيما و أخلاقيات بل يأخذها جاهزة من المتجر الاجتماعي كما يأخذ ملابسه من
المحل التجاري ،
و يرى ليفي برول L.Bruhl أن
الأخلاق ظاهرة اجتماعية ، تنضم العلاقة مع الغير و تمنح قوانينها للفرد بواسطة
التربية ، و الخير و الشر يتحددان بمدى اندماج الفرد في الجماعة أو عدم اندماجه
فيها . فالاندماج هو مقياس الخير ، وعدم الاندماج هو مقياس الشر . و بما أن لكل
مجتمع عادات و تقاليد و نظم خاصة كانت القيمة الخلقية أيضا نسبية و متغيرة
.
النقـــــــد/ رغم أن الناس تدفعهم طبيعتهم
النفعية إلى وضع المصلحة فوق كل اعتبار غير أن هذا ليس مبررا كافيا يجعل المنفعة
مقياسا للسلوك الأخلاقي ، كونها خاصية ذاتية تختلف باختلاف الميول و الرغبات ،
فاذا خضع الناس لها اصطدمت مصالحهم بعضها البعض ، و عمت الفوضى في المجتمع فما
ينفع البعض قد يضر بالبعض الآخر ، و ليس كل شيئ فيه لذة خير بالضرورة.
كما أن للمجتمع تأثير في الفرد لكن هذا لا يعني أن
كل ما يقوله المجتمع أخلاقي بالضرورة، و إلا كيف نفسر لجوء المصلحين إلى تغيير
مافي مجتمعاتهم من عادات بالية و قوانين جائرة ، و كيف نفسر اختلاف أفراد المجتمع
الواحد في أخلاقهـــــــــــــــــم.
طرح القضية الثانية / القيمة الخلقية مطلقة و
ثابتة لأن أساسها العقل و الشرع.
*الأساس العقلي / ان أساس القيمة الخلقية هو العقل
، فالخير ما يتطابق مع أحكام العقل ، و الشر ما يخضع لحكم الغرائزو الشهوات
العمياء ، و يتعارض مع الواجب . قال أفلاطون " Platon ( الفضائل
ثلاث: الحكمة فضيلة العقل ، و العفة فضيلة القوة الشهوانية ، و الشجاعة فضيلة القوة
الغضبية ) و الحكمة رأس الفضائل كلها لأنها تحد من طغيان الشهوة و تلطف الغضبية ،
واذا خضعت الى قوة الشهوانية للغضبية ، و الغضبية للعقل تحقق في النفس الانتظام
والتناسب و يسمي أفلاطون حالة التناسب هذه بالعدالــــة.
و ذهب الفيلسوف الألماني كانط
Kant إلى تقدير إلى فعل من خلال مبادئه و نيّة فاعله ،
فالخير ما يسيربمقتضى الواجب الذي يمليه الضمير ، و يكون نابعا من الإرادة الخيرة
و الشر ما يتعارض مع الواجب يقول ( أن القيمة الخلقية للفعل تكمن في مبدأ الارادة
الخيرة ،بغض النظر عن ما ينتج عن الفعل من كسب أو خسارة ) : ، لذلك ميز كانط بين
نوعين من الأوامر : الأمر الشرطي ، المرتبط بالمنافع ، فيفقد بذالك قيمته الخلقية
كأن نقول قل الصدق حتى يثق فيك الناس ،و الأمر المطلق (القطعي) المنزه من كل مبدأ
نفعي ، والمستجيب لصوت الضمير يحمل الخير في ذاته كأن نقول كن صادقا . أو كن أمينا
، هوالواجب من أجل الواجب و لا يتغير مع النتائج ، إذ لا يعقل أن يصبح ذات يوم
الصدق شر، و الكذب خير ، أو تصبح الأمانة رذيلة و الخيانة فضيلة ، فالأخلاق مبادئ
ثابتة ومطلقة و عليه وضع كانط ثلاثة قواعد للسلوك الأخلاقي :
ا- قاعدة التعميم : إعمل كما لو كان عملك قانونا
عاما فالبعض مثلا يرى في الكذب منفعة ، لكنه لن يكون أبدا سلوكا أخلاقيا ، كونه لا
يصلح للتعميم ، فإذا كنا نرفض الكذب علينا ، فمعنى ذلك لأنه لا ينبغي علينا أن
نكذب حتى و لو كان الكذب في صالحنا . نفس الشيئ بالنسبة لجميع الأفعال
ب- قاعدة الغائية / اعمل و كأنك تعامل الإنسانية
في نفسك و غيرك كغاية لا مجرد وسيلة ، فالواجب يأمرنا أن لا نجعل الانسان مهما
كانت صفاته مجردأداة لتحقيق مصلحة ، فالشخص الذي يعطي وعودا كاذبة يتخذ الآخرين
مجرد وسائل من أجلتحقيق رغبات و منافع معينة من غير أن يلتفت الى أن لهم حقوقا بصفتهم
كائنات عاقلة يقول كانط( لو كانت سعادة البشرية متوقفة على قتل طفل بريئ لكان قتله
سلوكا لاأخلاقيا ).
ج- قاعدة التشريع / اعمل بحيث تكون إرادتك الحرة
المشرعة للقانون الأخلاقي في جمهورية العقلاء ، و هذا يعني أن الواجب يقتضي منا أن
نجعل من أفعالنا مثالا يقتدى به ، و قانونا نؤسسه بإرادتنا لأنفسنا و لغيرنا
باعتبارنا كائنات حرة وعاقلة ، أننا ندرك بعقلنا و نور ضميرنا لا بحكم اللذة و
المصلحة أن الصدق و الإخلاص و الوفاء واجبات كونها أفعال خيرة في ذاتها و عند
الالتزام بها نكون قد جعلناهاقانونا أخلاقيا .
الأساس الشرعي . إن أساس القيمة الخلقية هو الشرع
. قال تعالى في سورة النحل ( و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيئ و هدى و رحمة و
بشرى للمسلمين) فالخير إذن ما يستجيب لأوامر الشرع ، و الشرع ما يخالفها يقول
الأشاعرة وهم أتباع ابي حسن الأشعري :الحسن ما حث الله عليه و رغب فيه ، و القبح
ما نهى الله عنه و رهب منه . إذن الخير و الشر يوجبهما الشرع لا العقل كما ادعت
المعتزلة ،فالعقل بحكم قصوره و ضيق معرفته ، لا يستطيع الاهتداء إلى الحق لوحده
فكان لا بد أن يعتمد على الشرع قال تعالى في سورة الحشر ( و ما أتاكم الرسول فخذوه
و ما نهاكم عنه فانتهوا) و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( تركت فيكم أمرين
ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله و سنتي ) و ما دامت إرادة الله
مطلقة ، و الرسول الكريم بعث للناس كافة ، و الاسلام دين يصلح لكل زمان و مكان
كانت القيمة الخلقية مطلقة و ثابتة و لا اختيار لإرادة الإنسان أمام الإرادة
الإلهية.
النقد / لاينكر أحد دور العقل في توجيه السلوك نحو
الخير ، و اجتناب الشر ، لكن تجريد الفعل من كل غاية أو منفعة قد يجعله جافا , غير
مرغوب فيه ، فأخلاق الواجب مثالية للغاية، و صورية ، تهتم بالمبادئ المطلقة دون المعاملات
الخاصة ، لذلك لا يمكن للانسان العادي الذي يتفاعل مع واقعه ، و تحركه الدوافع و
الغايات أن يعمل بها ، و يرى الفيلسوف الألماني شوبنهاور و هو أحد تلامذة كانط (
ان الواجب الكانطي قانون سلبي ،يصلح لعالم الملائكة لا لعالم البشر).
كما أن الشرع لم يلغ أبدا دور العقل في استنباط
الأحكام ، فهناك كثير من المسائل تظهر مع تطور الحياة الاجتماعية و العلمية تحتاج
إلى اجتهاد الرأي ، ووجود علم الفقه أحسن دليل على ذلك ، و في الاجتهاداختلاف و
صدق نسبي .
التركيب / رغم اختلاف الفلاسفة في تحديد المعايير
التي ندرك بها الخير ، نرى أن هناك تكامل بينها ، فكلما وفق المرء بين مطالبه
النفعية ، وأحكامه العقلية و ما يقرره المجتمع من قوانين و قواعد سلوكية ، و ما
أمر به الشرع وما نهى عنه ، كان صاحب هذا الفعل أكثر خلقا من غيره.
الخاتمة/ و حل المشكلة : إنطلاقا من هذا التكامل
في الأسس التي تبنى عليها القيمة الخلقية يمكن القول أن الأخلاق في مبادئها مطلقة
و ثابتة ، و في المعاملات تكون نسبية و متغيرة حسب المقتضيات .و أن تبق ارادة
الخير هي المسيطرة على جميع أفعالنا.
بالتوفيق