: آراء
المفكرين في مشروع سلامة موسى النهضوي
1-طه حسين:
كان الأديب طه حسين[1]
بادئ الأمر من ألد أعداء الأستاذ سلامة
موسى و من أكبر معراضي أفكاره النهضوية، حيث يقول فيه: (سلامة موسى ليس من
أصحاب الألوان الفكرية الظاهرة، فقد يكون حراً دستورياً وقد يكون وطنياً، بل قد
يكون اتحادياً، ولكنه على كل حال لا يعلن رأيه فكره أو لا يتكلف إعلانه ولا يتخذ
لنفسه لوناً وهو مسرف فى ازدراء الأدب العربى القديم والغض منه ، وقد أفهم ألا
يكون هذا الأدب القديم كما هو - ملائماً كله لذوقنا الحديث أو كافياً لحاحات
أنفسنا، ولكن القدماء لم يضعوا أدبهم لنا وإنما وضعوه لأنفسهم، وليس من شك فى أن
هذا الأدب القديم كان يلائم أذواق القدماء وحاجات نفوسهم، فإذا لم يلائم أذواقنا
وأهواءنا فلنبتغ غيره لا أكثر ولا أقل، وهو مسرف أيضاً حين يقول إن الأدباء
المصريين لم يكن لهم شأن فى حركة الاستقلال، لم يقودوا الأمة فى هذه الحركة، وإنما
قادتهم الأمة بل قادهم الرعاع إلى الاستقلال، وقد يكون هذا حقاً بالقياس إلى هؤلاء
الشعراء الذين تبعوا الجمهور ولم يتبعهم).[2]
وموسى يرد: أنتم حلفاء النظام أدب الملوك والأمراء
والباشوات هو هذا الأدب الذى يدعو إليه الدكتور طه حسين، ومن أحسن ما اقترحه
الدكتور طه حسين قبل نحو عشرين عاماً أننا يجب أن تنقل إلى لغتنا ترجمة أدبية لأحد
الكتاب الأوروبيين.[3]
إنه لولا انغماس العقاد وطه حسين فى الأدب العربى
القديم لما خاطب طه حسين الفاروق بكلمة «يا صاحب مصر» ولما وصفه العقاد بأنه
فيلسوف، ذلك لأن الأدب العربى القديم هو إلى حد بعيد أدب الملوك.[4]
ويؤيد طه حسين موقف العقاد من سلامة موسى فيقول: (لقد
كان كاتباً منبهراً بالأوروبيين، وعدواً بالغ العداء للعروبة والإسلام، وداعياً
بلا خجل لأن تكون بلاده مجرد –فاكونة- في القطار الغربي.. فهو يستحق إذن هذه
«اللطمة» من كاتب كبير ذي نزعة عربية وإسلامية هو عباس محمود العقاد)[5].
ثم عاد طه حسين و عدل عن رأيه في سلامة موسى و أصبح
من مؤيديه بعد المناظرة التي حصلت بينهما ليعود و يقول فيه: ( سلامة موسى يكتب في
حدود الموضوعية البحتة، ومن أجل منفعة الحقيقة، ويمسك عن أية إهانة يمكن أن تلحق
الأذى بكرامة من يردّ عليه).[6]
2-عباس محمود العقاد:
في عام 1930 عقدت في الجامعة المصرية بالقاهرة
(جامعة القاهرة حاليا) مناظرة بين قطبين من أقطاب الفكر والثقافة العربية آنذاك،
هما عباس محمود العقاد[7]
وسلامة موسى، وكان محور المناظرة العبارة الشهيرة التي أطلقها الشاعر الانجليزي
رديارد كبلنغ والقائلة «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». طلب من المتناظرين
التعليق على العبارة باتخاذ موقف إزاءها. ما قاله سلامة موسى ورد في كتاب نشرته
وزارة الثقافة السورية عام 1991 تحت عنوان «الشرق والغرب» ، يضعنا أمام بعض
الأفكار الأساسية التي دعا إليها التنويريون العرب في تلك المرحلة والتي ما يزال
البعض يرددها.
فقد دعا موسى إلى العامية والفرعونية والتخلي عن كل
ما يمكن أن يعوق الاندماج بأوروبا.
وقد ردّ العقاد يومها عل سلامة موسى رداً موضوعياً
ومُقنعاً معاً لم يسفّ أو يبتذل. قال "إنه إذا كانت شخصية أبي نواس
سيكوباتية شاذة، فمعنى ذلك أنه مخالف في تكوينه للمجتمع الذي عاش فيه، وأنه لا
يشبه الملايين الذين عاشوا في ذلك المجتمع. وإذا كانت آفة المجتمع العربي قلة
الرقص، فمن اللازم أن يتشابه أبو نواس وملايين الخلق في هذه الآفة العامة، فلا
شذوذ في هذه الحالة ولا سيكوباتية"..[8]
وأضاف العقاد إلى ذلك أن سلامة موسى يعلم أن
مجتمعات الغرب العصرية لا تشكو قلة الرقص، بل لعلها تشكو افراطه وتهافت الشبان
والشابات عليه في الأندية والبيوت، بل في الميادين والساحات. ولماذا أصيب أربعة
بالمائة بالشذوذ الجنسي مدى الحياة، عدا المصابين به في أطوار دون أطوار؟ وهذه
النسبة مثبتة في تقرير «كنسي» وزملائه عن العلاقات الجنسية، وقد كتبه علماء وخبراء
عن مجتمع عصري؟
وتهكم العقاد يومذاك على سلامة موسى حينما ذهب إلى
أنه لا يجهل هذا التقرير. كما تساءل من ناحية أخرى عن خطب أوسكار وايلد إن كان ذلك
خطب أبي نواس، أن أوسكار وايلد لم يلده مجتمع كمجتمع أبي نواس، بل ولد في عصر
الرقص والاختلاط ونشأ في بيئة الترف وتزوج من بيئته وولد له أبناء، ومن ثم لماذا
ينفرد مجتمع شعراء العرب بالآفة لأنه محروم من الرقص والاختلاط بين الجنسين..[9]
ولكن العقاد فقد أعصابه لا في هذه المعركة، بل في
معركة أخرى لاحقة مع سلامة موسى. فقد كتب هذا الأخير على صفحات جريدة الأخبار، عام
1956م مقالاً رأى فيه أن العقاد أديب لا يمتّ إلى الشعب بصلة، ولكنه مع بعض زملائه
من أمثال طه حسين وهيكل وشوقي والجارم بطانة إقطاعية ساعدت على الظلم والطغيان،
وأنه هو، أي سلامة موسى، الأديب المصري الوحيد الذي يكتب للشعب.[10]
ويقول أحد الأدباء الذين عاشوا في تلك الفترة
وكانوا أصدقاء للعقاد وسلامة موسى، إن مقال العقاد ترك جروحاً في نفس سلامة موسى
احتاج زمناً طويلاً حتى شفي منها.[11]
3-نجيب
محفوظ:
قال
نجيب محفوظ[12] عن سلامة موسى: "كان
سلامة موسى الراعي والمربى الأدبي لي"، ويضيف أيضا: "سلامة موسى كان
الوحيد الذى قبل أن يقرأ رواياتي الأولى وكان أحد العوامل الكبرى التي ساعدتني في
حسم اختياري الأدبي".[13]
ويعتبر سلامة موسى
حسبه : "أكبر مبشر في جيلنا بالعدالة الاجتماعية وبالعلم وبالرؤية
العصرية"[14]، هذه مقتطفات من شهادة
الروائى العظيم نجيب محفوظ صاحب نوبل فى الآداب عن أثر سلامة موسى فى تكوينه
الأدبى والثقافى، وقد جاءت باستفاضة فى كتاب "نجيب محفوظ بقلمه" (كتاب
اليوم – إبراهيم عبد العزيز)، وهى شهادة قلما التفت إليها النقاد والمفكرون، يقول
محفوظ فى شهادته بنص كلماته:
"كنت أمضى
العام كله وأنا أكتب رواية واحدة ثم آخذها تحت إبطى فى آخر العام وأركب الترام إلى
الفجالة، ادخل حارة ميخائيل جاد وادق باب أحد البيوت فيخرج لى سلامة موسى، ويأخذ
منى الرواية وأسبوع يمر وأروح لسلامة موسى البيت فأفاجأ به يقول لى: مش بطال لكن
حاول مرة تانية وكان الأديب الوحيد الذى قبل أن يقرأ رواياتى الأولى وهى مخطوطة بل
كان هو أحد العوامل الكبرى التى ساعدتنى فى حسم اختيارى الأدبى"، واذكر أنه قال لى: إن أغلب الذين يكتبون
القصة فى مصر من المتأثرين بالغرب فكيف يمكن كتابة رواية مصرية لحما ودما؟ كم هى
جميلة تلك اللحظات التى اتذكر فيها بداية علاقتى به، حين صدرت المجلة الجديدة وكنت
أول قارئ اشترك فيها فارسل لى سلامة موسى خطابا يشكرنى ويقول فيه: اعتبرك من
أصدقاء المجلة.[15]
أبرز ما يميز سلامة
موسى أنه مروج للفكر النهضوي العلمي وكان يرفض التفسير الغيبى والخرافي وأصدر مجلة
تكرس لهذا التوجه العلمي في التفكير وكان هذا حصاد رحلته لفرنسا وبريطانيا للدراسة
ولقائه برواد الفكر الفابي "الاشتراكيين الفابيين" الذين أثروا عليه
فازداد إيمانه بقيمة العدل فى المجتمع واهمية التفكير العلمي وعندما عاد إلى مصر
اصدر صحيفة "الاشتراكية" وأهم إنجازاته أنه دعا إلى تطوير اللغة وإلى
اعتماد العامية كلغة للعلم والثقافة لكن هوجمت دعوته هجوما شديدا، ودعا إلى
الارتباط بالهوية الفرعونية لمصر، وفى كتابه سوبر مان دعا إلى ربط مصر بأوروبا تماما
ولم يكن كغيره من المثقفين الذين اتخذوا موقفا وسطا ينسج بين العروبة والمعاصرة
إنما كان من أنصار إيجاد نوع من القطيعة بين مصر والثقافة العربية.[16]
ويحمد له أنه ترجم أصل
الأنواع لداروين وكان يتبنى النظرية الداروينية وتصادم مع بعض التفسيرات الدينية
وقتها فهاجمه بعض مشايخ عصره، لكنه ظل مصرا على موقفه.[17]
4-المفكر المصري محمد عمارة:
قدم
الأستاذ محمد عمارة[18]
ما اعتبره بحثاً عن "المشروع الفكري لسلامة موسى" وذلك في سلسلة مقالات
نشرها بعدد من الصحف منها "الحياة اللندنية" يصرح أن غرضه من عرض معالم
المشروع الفكري لسلامة موسى هو كشف النقاب عن حقيقة مذهب "التنوير الغربي
العلماني" الذي يهدف وفق رأيه لمواجهة "المشروع الإسلامي" وأستند
في رؤيته تلك إلى كتاب سلامة موسى " اليوم والغد" ويمكننا تلخيص وجهه
نظر عمارة في سلامة موسى بعدد من النقاط .[19]
- الصراحة العارية في العمالة الكاملة للحضارة
الغربية القائمة على أساس الدعوة إلى "إلغاء" الذات الحضارية واستبدالها
بالأخر الحضاري الأوربي.
-احتقار
الشرق والشرقيين.
-مواجهة
الإسلام كدين وحضارته النابعة منه إضافة للتأكيد بوجود تناقض بين الوطنية والجامعة
الإسلامية والتبشير بثقافة تدعو لفصل الدين عن الدولة.
-الادعاء
بأن سلامة موسى كان ملحداً وبالتالي السعي إلى اقتلاع الدين الألهى في حياة الأمة
المصرية والإسلامية.
-الدعوة
إلى اتحاد المصريين بمستعمريهم من الأجانب ووفق هذا الاتهام فإن سلامة موسى تجاوز
العمالة الحضارية إلى العمالة السياسية بنظر محمد عمارة، وفي هذا السياق يستشهد
عمارة بقول سلامة موسى: "إن الإنكليز على الرغم من خصوماتنا معهم وشدة
إشفاقهم في استغلال ضعفنا أرقى أمة موجودة الآن في العالم، فنحن إذا أخلصنا النية
مع الإنكليز فقد نتفق معهم إذا ضمنا لهم مصالحهم وفي الوقت نفسه إذا أخلصوا النية
لنا فإننا نقضي على مراكز الرجعية في مصر وننتهي منها".[20]
-زرع التناقض بين الوطنية المصرية والقومية العربية
واتهام اللغة العربية بالعجز حتى عن وصف أبسط الأشياء وعجزها عن الوفاء بمتطلبات
الترجمة عن اللغات الأخرى وذلك لكونها لغة بدوية تبعثر الوطنية المصرية في إطار
القومية العربية وبذلك التبعثر يزداد ربطه مصر بالشرق دون الغرب.
ذلك هي معالم المشروع
الفكري لسلامة موسى كما كتبها المفكر محمد عمارة في سلسلة مقالاته المشار لها وهى
تدخل في إطار تصفية الحسابات وهذا بالطبع يبعد حديثه عن موضوعية البحث، كما أن تلك
المقالات تفتقد للغة الحوار وتعتمد على لغة الاتهام والتشهير ومحاولات الإساءة
الشخصية أكثر من كونها محاولات لإظهار الاختلاف الفكري وهذا يظهر جلياً في اتهام
موسى من قبل عمارة بالعمالة السياسية والإلحاد الديني.
5-المفكر الفلسطيني
ماهر الشريف:
قام بالرد الموضوعي
على الاتهامات والتشوية المتعمد الذي مارسه الأستاذ عمارة ومَن يشاركه الاتجاه
الفكري ضد سلامة موسى و اعتمد "ماهر الشريف[21]"
على كتاب تحت عنوان "سلامة موسى
نموذجاً للتطوير" حيث أورد فيه قائلاً:- إن الأستاذ محمد عمارة يعرف أن سلامة
موسى كان مفكراً موسوعياً خلف وراءه ما يقرب من أربعين كتاباً ومئات المقالات، وهو
ما يحتم على الباحث الموضوعي الهادف إلى عرض "معالم مشروعه الفكري[22]"
أن يرجع إلى كل أو معظم ما كتبه هذا المفكر وأن يتعامل تعاملاً تاريخياً متخذين
بعين الاعتبار أن سلامة موسى كغيره من مفكري التنوير كان يتجاوز نفسه باستمرار
وذلك انطلاقا من إيمانه العميق بالتطور وهذا ما جعل الباحث المصري غالي شكري يصف
سلامة موسى قائلاً "لا نستطيع أن نصوغ أفكار سلامة موسى في بناء منطقي متناسق
لأنه كان دائب التطور يتجاوز نفسه بصفة دائمة"، وكان يقف وراء ظاهرة عدم
الثبات الفكري هذا إيمان عميق بالتغيير على اعتباره أساس الوجود البشري ذلك أن
مجتمعنا وكما كتب سلامة موسى ليس نهائياً إذ هو سيتطور ومادام هذا شأن المجتمع يجب
أن نتناوله بالتغيير كلما وجدنا الحاجة إلى هذا التغيير، ومن منطلق هذا الإيمان
بالتطور توصل سلامة موسى إلى استنتاج مجمله أن العقل العصري الراقي قد أصبح عقلاً
مركباً يحتاج إلى التناقض والتناسق، إلى المنطق والإيمان، إلى الخيال والتعقل، إلى
التحليل والتركيب، إلى الحقائق الموضوعية والأفكار الذاتية، وكل هذا لا يمكن أن
يحتويه كتاب واحد... لذلك كله لا يمكننا التحدث عن معالم المشروع الفكري لسلامة
موسى بالاستناد لكتاب واحد من كتبه.[23]
لقد كان مشروع سلامة
موسى الفكري والذي يطلق عليه الأستاذ محمد عمارة أسم "التنوير الغربي
العلماني الملحد" إسهام متميز وجزء لا يتجزأ من مشروع عربي متميز أنطلق في
النصف الأول من القرن التاسع عشر وحمل أسم التنوير والنهضة والإحياء وذلك المشروع
يتميز بالدعوة لإعمال العقل والانفتاح على الغرب والاقتباس من ثقافته وتبني مفاهيم
المواطنة والدستور والتشديد على أهمية فصل الدين عن الدولة، وقد تعاقب على حمل هذا
المشروع الفكري التنويري العربي الذي تمحور حول سؤال: كيف ينهض العرب؟ مفكرون
كثيرون كانوا ينتمون لتيارات ومدارس مختلفة بما فيها تيار الإصلاح الديني الإسلامي
وفي إطار هذا المشروع تميز المفكرون عن بعضهم البعض حسب طبيعة كل منهم وموقع نشأته
وتربيته ومنابعة الفكرية وحسب درجة انفتاحه على الغرب واقتباسه من ثقافته[24] .
المبحث
الثاني: نقد و تقييم المشروع النهضوي لسلامة موسى
المطلب
الأول: الفكري الغربي و الاصلاح النهضوي:
يتضح من خلال كتب سلامة موسى الأربعين مدى تأثره
بالغرب ودعوته الى محاكاته وتقاليده في كل شيء، وان أول خطوة قام بها بعد عودته
الى مصر هو تأليف كتاب "السوبرمان" الذي يبين انبهاره بالغرب ودعوته
للمجتمع المصري الي التشبه به والانتماء اليه والتخلي عن كل الأفكار والمعتقدات
الدينية والاجتماعية. واذا ما أردنا أن ننهض بمجتمعنا علينا أن نولي وجهنا شطر
الغرب". وقد اشار في كتابه " هؤلاء علموني " لعدد من المفكرين
الذين أثروا عقله ودفعوا بحياته لمنحى جديد من الرقي، ويستشف المرء المطلع على
كتاباته أن هناك ثلاثة عوامل غربية رئيسية قد أثرت في بلورة فكره وشخصيته ووسمته
بالطابع الذي تميز فيه، وهذه العوامل كما نرى هي:
الأول: الأديب الفرنسي الفولتير" كرمز لحرية
الفكر من خلال الثورة على العقائد البالية (في مصر والمجتمع العربي).
مما لاشك فيه أن سلامة موسي هو أديب من الطراز
الأول وبداياته الأدبية والفكرية كانت مبكرة جدا حيث أن عناصر فلسفته الإنسانية
تكشفت عندما لم يتجاوز العشرين من العمر، وقد سمحت مدة بقائه في فرنسا بقراءة أدب
فولتير فتأثر بأفكاره ومبادئه الى حد محاكاته في كل مساره الفكري والأدبي لدرجة
أنه دعا الى تطبيق جل افكار فولتير على المجتمع العربي عموما والمجتمع المصري على
وجه الخصوص ولا نغالي اذا ماقلنا إنه حاول أن يكون (فولتير العرب) وشخصية فولتير
بالنسبة إليه شخصية تستحق الإنبهار بها، ولو حاولنا عقد مقارنة بينهما سنلاحظ مدى
محاكاة هذا لذاك ولتكن المقارنة على النحو التالي[25]:
1- لقد غیر فولتير وجه الحياة الأوربية في القرن
الثامن عشر من خلال نبذ الاستبداد والعنف والتعصب والدعوة إلى التسامح والحرية
ومناصرة الطبقة الكادحة من عمال وفلاحيين. وهذا ما قام به سلامة موسی ودعا إليه في
ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وآمن بالأشتراكية ، وان كل البشر متساوون في
الحقوق والواجبات وإن اختلفت مذاهبهم ودياناتهم.
2- رفض فولتير التحالف الوثيق بين الكهنة والطغاة،
وبتعبير أدق بين الكنيسة ورجال السلطة. وكان يرى أن الكنيسة يجب ألا تحتكر الدين
وأننا يجب أن نكون إلهيين قبل أن نكون مسيحيين أو مسلمين أو يهودا ، وفي هذا يقول
فولتير " كلمة الإلهي هي الوصف الوحيد الذي يجب أن يتصف به الإنسان
والكتاب الوحيد الذي يجب أن يقرأ هو كتاب الطبيعة والديانة الوحيدة هي أن نعبد
الله وأن يكون لنا شرف وأمانة وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببا للأذى
". أما سلامة موسى فنجده يرفض الميتافيزيقا وينبذ غيبياتها وكان يخشى التحالف
القائم في مصر بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وان الموقف الذي ذكره في
كتابه (هؤلاء علموني) يشير الى مدي رهبته من ذلك التحالف.
لقد كان انتقائية في تعامله مع الفكر الغربي ولم يأخذ محورة فكرية موحدة ومحددة بل
تجاذبته تيارات فكرية مختلفة.[26]
الثاني: الأديب الإنكليزي الساخر
"برناردشو" كرمز للسخرية من الواقع السياسي ولتقديم الفلسفة عن طريق
الأدب:
إن تأثير الأدباء والمثقفين الكبار في الرأي العام أقوى وأعم من
تأثير المتخصصين في الفلسفة أو العلوم الأخرى ، وسلامة موسي تأثر بالعديد من هؤلاء
وابرزهم الشاعر الألماني غوثيه والأديب الإنكليزي برناردشو والسالف الذكر الفرنسي فولتير .. وكان سلامة قد أخذ
عن غوته مبدأه في تكوين الشخصية وبنائها الثقافي، فكان كتابه (تربية سلامة موسی) دليلا واضحا على ذلك.. حيث يذكر
فيه كل المؤثرات التي بنته وكونت شخصيته التي هو عليها. الم يتأثر سلامة بسلاسة
قلم برناردشو الساخر واسلوبه الأدبي فقط وانما تأثر ايضا بتوجهه الأشتراكي في
التفكير، وان عشرات الكتب والمقالات الأدبية التي الفها سلامة تبين مدى تأثره
بأسلوب برناردشو في الكتابة.. وهو الطريق الذي انتهجه للترويج لكل أفكاره العلمية
والفلسفية[27]. لقد كان علمي الذهن ،
أدبي الوسيلة ، فلسفي الهدف، يمتاز بالتفكير العلمي والاتجاه الاشتراكي للأنسان
وهو بذلك متأثر ببرنارد شو الى حد كبير. بل انه التحق بالجمعية الفابية التي
يتزعمها الأخير والتي كانت تنشر الأشتراكية بين المتوسطين والأغنياء. لقد دعا
سلامة موسى الى الأهتمام بسائر أشكال الوعي الأجتماعي مثل الأدب والفلسفة والعلم
والفن، ذلك أن الحياة أختيار مباشر، وينصح الإنسان فيقول:" لا تكن أديبا
فقط ، أو عالمة فقط ، أو فيلسوفة فقط ، بل كن الثلاثة ".[28]
ويرى سلامة موسى أن
الأمة التي تهمل العلوم تهمل حياتها، وقد حاول طيلة حياته التي قضاها في مصر أن
يعمم التوجيه العلمي بمؤلفات شعبية مختلفة وبلغة أدبية سلسلة وقد انتقص قيمة
مؤلفات بعض الكتاب في مصر لأنها لم تكن تتجه الاتجاه العلمي أو على الأقل كانت
تتجاهل الأسس العلمية وتستسلم لمزاعم ميتافيزيقية. وهذا يعني أنه كان يفكر بآفاق
فلسفية ولكن بلغة أدبية كما هي الحال مع برناردشو.[29]
الثالث: العالم الأنكليزي "تشارلس دارون"
كرمز للمنهج العلمي في التفكير.
لم يتأثر
سلامة موسی بنظرية التطور لدارون فحسب، بل تبناها وروج لها من اجل اشاعة روح
المنهج العلمي في التفكير وتعميمه بين الناس. وقد لعب دورا أساسيا في تقديم هذه
النظرية وغيرها من الأفكار العلمية الحديثة إلى الشباب بأسلوب أدبي شيق وطرق أبواب
علم النفس، وتحدث عن المذاهب الفلسفية، وتناول الاتجاهات الاقتصادية، وكتب في علوم
الأحياء وفي تاريخ الفنون، كما كان يتابع سير العلوم أولا بأول، وما من کشف علمي
جديد الا وقد وجد له تعريفا وشرحا بلغة أدبية سلسلة يسهل فهمها من الناس البسطاء.
فمارس بذلك حضورة ثقافية في مناخ الفكر العربي المعاصر في النصف الأول من القرن
العشرين. كان من نتائجه آن تغيرت العقلية العربية المصرية) وبدأت تساير العالم
المعاصر بفضله وصار المجتمع يفكر ويبني ويتحرك على هدي الثورة الذهنية التي كان هو
رائدها .[30]
ولم تكن
فلسفة سلامة موسي مباشرة وانما تقبع خلف سطوره الثقافية الأدبية، يقول الباحث كمال
عبداللطيف: " إن الفلسفة تقرأ خلف ماهو مكتوب، انها تظهر في الوقت الذي
ينتهي الخطاب، حيث يبرز موقف فلسفي من الانسان والتاريخ "[31]
ونتيجة لتبنيه نظرية التطور وقضايا سياسية ودينية واجتماعية متنوعة دخل سلامة موسى
في معارك وسجالات ادبية هيجت أوساطا عديدة ضد أفكاره. ولم يتراجع موسی بل ألف
كتابا عن نظرية التطور بعنوان (نظرية التطور وأصل الإنسان) وكتابا أخر بعنوان
(الإنسان قمة التطور) شرح فيهما فكرة التطور ونشأة الحياة الأولى، ثم تطور الحيوان
والإنسان وظهور المجتمع لينتهي بالحديث عن إنسان المستقبل"، وعن سبب التطور
يقول إنه اختلاف الصفات والإمكانات في الكائنات.. وعن العلاقة بين الإنسان والقرد
يلاحظ سلامة موسى أن حدائق الحيوان لا تحتوي في الغالب إلا على الأنواع الدنيا من
القردة، والتي لا يمكن لأحد أن يفكر بأنها تشترك مع الإنسان في أصل واحد. ولكن
هناك أربعة أنواع من القردة العليا لا نراها عادة في كل الحدائق وهي
"الجيبون" و "الأورانج أوتان" و "الشمبانزي" و
"الغوريلا". وهذه القردة "بتراء"، بدون ذيل كالإنسان ونحن
نمتاز عنها بقامة عمودية وبجمجمة كبيرة وبجسم أملط أو خفيف الشعر. ونحن نحبو أولا
في طفولتنا ثم نتعلم الوقوف باستقامة ونعود في شيخوختنا إلى الانحناء. ولو لم يكن
وضعنا العمودي لا ثقلت الجمجمة الكبيرة كاهلنا. إذن هناك علاقة قرابة تطورية - كما
يقول[32]
- تربط بيننا وبين الحيوان، وقطع كل منا على هذا الكوكب ما يقارب ال 700 مليون
سنة، وقد انقرض بعضنا وبقي بعضنا الآخر، ولكن مع هذا الانقراض وهذا البقاء يتجه
التطور في مجموعة نحو ما نفهم من الرقي البشري ... وإذن نجد أن للرقي البشري أساسا
طبيعيا. بل إن هذا الرقي مفروض علينا وواجب محتم بل واجب ديني بحيث يتطور الفرد
وتتطور الأمة وتتطور الدنيا. ومن يعارض التطور ويدعو الى
الجمود يكفر لأنه يعارض الدين.[33]
وهو
هنا قد شكل امتدادأ أكثر تقدما لشبلي شميل في التطور، وان له رؤية مادية للكون
والإنسان تتسم بأنها جسورة رغم ترددها، وذات نفحة انسانية تجمع ما بين المغامرة
النقدية لعصر الأنوار الفرنسي معززة بمادية نظرية التطور ومطعمة باخلاق السعادة
النفعية كما صاغتها اشتراكية فابيوس التي آمن بها. ونستشف من كل ماتقدم بأن لسلامة
موسي فلسفة مادية ميكانيكية تصل مابين منهجه النظري ومحاولاته العملية التغيير
الواقع.[34]
المطلب
الثاني: الدعوة للقطيعة مع التراث
عد سلامة موسى المجتمع
العربي عموما والمجتمع المصري على وجه الخصوص مجتمعا رجعيا متخلفا تسيطر عليه
التقاليد والأعراف البالية ورأى أن نهوض الأمة وتقدمها لا يمكن أن يحدث من دون
محاربة كل مصادر الجهل. وقد أخذ سلامة على عاتقه هذه المهمة، وازداد اصرارا بعد
سفره لأوربا وما أصابه من انبهار وذهول لما شاهده من تطور وتقدم في المجتمع
الأوربي سواء على صعيد المرأة او الأنظمة السياسية وكل أشكال الحضارة المدنية وأحس
في داخله كم هو البون الشاسع بين هذا المجتمع وذاك. وبعد أن عاد من أوربا عقد
العزم على محاربة كل ما من شأنه أن يعيق تقدم المجتمع المصري ، وكان القلم والكتاب
سلاحه في تنوير العامة ، وأول ما توجه بالنقد إليه هو التراث العربي بكل ما فيه من
سياسة وأدب ودين ولغة ، ودعا في كل كتبه الأربعين الى القطيعة مع ذلك التراث الذي
عده عائقا كبيرا في تقدم الأمة ونهوضها.
1- موقفه من الدين:
أشار سلامة
موسى في معظم كتبه الى أن ديانته الحقيقة وإيمانه العميق إنما يكمن في الفلسفة ،
فديانته موضوعية منطقية لا ذاتية عقيدية فقط وليس هناك تعارض - عنده - بين الدين
والفلسفة، بل إن قضية كلاهما كيف نفكر التفكير العقلي السليم ، فالفلسفة هي الدين
( وذلك لأن قضية الدين هي نفسها قضية الفلسفة، وهي : كيف نفكر التفكير السليم
ونعيش العيشة الطيبة؟ ومقاييس الدين هي في النهاية مقاييس الفلسفة) فهو يؤمن
بديانة العقل وميتافيزيقا العلم لأنها قابلة لأن تتحقق. وعلى الرغم من نزعته
العلمية وميله للماركسية وماديتها، والشيوعية واشتراكيتها، فانه لم يقف من الدين
موقفة معادية يمكن أن يؤخذ عليه، بل أكد روح الإنسانية لديه، فديانته هي الأنسانية
بما تحوي من فلاسفة وأنبياء وأدباء ، وبما تحوي من شجاعة وذكاء ومرؤة ورحمة وجمال
وشرف[35].
كما انه لم يحارب العقيدة الدينية في حد ذاتها، وعلى العكس أكد أن المتدين إنما
يحس سلامأ ويجد ابتهاجأ يحرم منهما غير المتدين"
: وأكد أن جميع الكتب السماوية المقدسة وعشرات الكتب
الأدبية والفلسفية الأخرى قد شكلت المرجع الرئيسي لديانته فيقول (إني أؤمن
بالمسيحية والإسلام واليهودية، وأحب المسيح وأعجب بمحمد، وأستنير بموسى ، وأتأمل
بولص وأهفو الى بوذا. وأحس ان كل هؤلاء أقربائي في الروح أحيا معهم على تفاهم
واستلهم منهم المروءة والحق والرحمة والشرف). و ( إن بعض دیانتي يرجع أيضا الى "جمهورية أفلاطون" والی "الإنسان والسوبرمان" لبرناردشو، والى مؤلفات جان جاك روسو، وتولستوي ...
فقد زودني هؤلاء جميعا بهرمونات دينية")[36]
وأؤمن زيادة على هؤلاء ، بحب الطبيعة وجلال الكون، ولا أنسى المعنى الديني في
نظرية التطور ، وموكب الأحياء التي يتوجها الإنسان. بل اني لأجد هذا المعنى الديني
في جمال المرأة، وقداسة الأمومة وشرف الإنسانية "[37]
وهو في هذا الرأي متأثر الى حد كبير بفولتير الذي
يقول : إن " كلمة الإلهي هي الوصف الوحيد الذي يجب أن يتصف به
الإنسان والكتاب الوحيد الذي يجب أن يقرأ هو كتاب الطبيعة والديانة الوحيدة هي أن
نعبد الله وأن يكون لنا شرف وأمانة وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببا
للأذى[38] . والحقيقة أن رأيه لم يكن معادية للدين أو
الاسلام بالذات ، فهو لا يرفض الدين أي دین وانما يرفض الأساطير والخرافات التي
يضفيها الناس على جوهر العقيدة الدينية السامية فتعمل على تحريفها وتشويهها. كما
رفض فكرة احتكار الدين من قبل مجموعة من الناس تسمى ب (رجال الدين) وهؤلاء لطالما
تسلطوا على رقاب العباد باسم الدين وما شهده العصر الوسيط في اوربا خير دليل على
ذلك. لقد اراد سلامة موسى أن يحرر عقل الفرد وشخصيته من ضغوط التقاليد وسيطرة
الأوهام فدعا الى فصل الدين عن الدولة.[39]
وقد تعرض موسى الى إنتقادات حادة من قبل شيوخ
الأزهر و بعض المفكرين على حد سواء، ولعل تلك الإنتقادات التي ملأت الصحافة في ذلك
الوقت قد شكلت ردة فعل طبيعية في مجتمع اسلامي يصعب اختراقه في مثل هكذا ظرف،
لاسيما وإنه قد غالى وتطرف في رفض الميتافيزيقا واتخاذ العقلانية منهجا للتفكير،
حيث يقول "ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوی عقله، وأن يأخذ
الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدلا من أن يخضع له"[40].
وتأثر سلامة موسي بالفيلسوف سبينوزا في موقفه من الميتافيزيقا وعبر عن ذلك بقوله:
(إن ديانتي من الناحية الغيبية، تشبه بل تطابق ديانة إسبينوزا، أي أن المادة
والقوة شيء واحد ليس بينهما انفصال، وكذلك الشأن في العقل والجسم)[41]
وقد تسبب رأيه هذا في سجالات وصراعات فكرية مع خصومه المنتقدين بشدة الموقفه هذا،
واذا ما أردنا أن نفترض حسن النية في موقفه من الدين يمكن لنا أن نقول بانه لم يكن
موقفا معاديا قدر ما هو دعوة للتحرر من العادات والتقاليد القديمة والتحرر من
السلطة الدينية التي يمارسها رجال الدين . وقال: " أريد أن أكافح تاريخنا
أكافح هذا الشرق المتعفن الذي تتغلل فيه ديدان التقاليد" .[42]
وقد جعل
موسی من انتقادات مناوئيه القوية دافعا للاستمرار في محاربة الأفكار الرجعية التي
رأى فيها البعض تربية منه للمجتمع.
2- موقفه من
التراث:
كان للموقف
النقدي الحاد الذي اتخذه سلامة موسى من التراث العربي ومن اللغة العربية التي هي
لغة القرآن الكريم أثر كبير في عدم نجاح وتكامل مشروعه الفكري التنويري الذي جاء
به بعد عودته من أوربا وهو ما فتح عليه أبواب الاتهام والنقد من فطاحل الفكر
والأدب في ذلك الوقت أمثال العقاد و محمد عمارة وغيرهم. وحري بنا هنا أن نستعرض
ونحلل بإيجاز موقفه من التراث ليتسنى لنا فيما بعد إجلاء حقيقة الموقف بحيادية
وموضوعية وعلى النحو الآتي:
1- دعا سلامة موسى الأدباء المصريين الى القطيعة مع
العرب بتراثهم ولغتهم والتوجه التام نحو أوربا والتعلم من فنونها وآدابها وعلومها.
وسوغ ذلك بأن اللغة العربية لا تخدم الأدب المصري بل تجعل من المجتمع ينصهر في
القومية العربية. وكأنه يدعو لانسلاخ مصر من بيئتها العربية والنزوع بها نحو
تغريبها وتجريدها من كل مقومات وجودها.
2- دعا في كتابه كيف نربي أنفسنا" الى
محاربة الرجعية والعقائد الجامدة الموروثة والدعوة الى حل المشكلات الاجتماعية
والأمية المستشرية بالتفكير الحر المبتكر وذلك لا يكون - حسب رأيه - الا بمحاربة
التراث.[43]
3- الدعوة الى نبذ الشرق المليء بالميتافيزيقا ورفض
الانغلاق على الذات والتوجه نحو الغرب الذي يحيا على العلم والصناعة والديموقراطية
والمساواة بين الجنسين واستقلال الشخصية والنظرة الموضوعية لهذه الدنيا والحكم
البرلماني. والتوحد معه كشرط من شروط النهضة في مصر، فالحضارة الجديدة المنتظرة هي
الحضارة الصناعية.
4- الدعوة الى تغليب الاتجاهات العلمية في
التفكير على كل انماط الثقافة العربية، لأن الأمة التي تهمل العلوم إنما تهمل
حياتها. وذكرنا هنا أنه حاول في مصر طيلة حياتي الماضية أن يعمم التوجيه العلمي
بمؤلفات شعبية مختلفة.[44]
5-وهذه النقطة مهمة جدا لأنها تتعلق بعصب التراث
والحضارة العربية ألا وهي اللغة، وللحقيقة نقول أن موقفه من اللغة موقف غريب وغير
مسوغ البتة وفحواه أن اللغة هي وسيلتنا الأولى للتعبير عما في داخل رؤوسنا ونفوسنا
وتعد أهم طريقة نتواصل بها مع الآخرين، ولكنها هي من أعظم الأسباب لتأخرنا
الاجتماعي فالعلوم لا تزال خرساء في اللغة العربية ونحن مازلنا نقتبس عبارات عربية
يعافها الذهن الذكي ومرجع تلك العبارات تلك البلاغة العاطفية الانفعالية التي
تعلمناها وغرست في نفوسنا قيما مزيفة للاستعارة والمجاز لذلك كله لابد من توجه
الشباب المصري لدراسة اللغات الأجنبية ليستعينوا بها على الاتصال العالمي.
واتهم اللغة العربية بالعجز حتى عن وصف أبسط
الأشياء وعجزها عن الوفاء بمتطلبات الترجمة عن اللغات الأخرى وذلك لكونها لغة
بدوية تبعثر الوطنية المصرية في إطار القومية العربية وبذلك التبعثر يزداد ربط مصر
بالشرق دون الغرب، وهنا اذا كان يمكن لنا أن نتفق مع سلامة موسی جزئيا في ما ذهب
اليه بخصوص نظرته الى التراث، حيث التقوقع في الماضي والانغلاق عليه واستحضاره في
كل وقت، وهو أمر مرفوض لأنه يقف على الضد تماما من مواكبة عجلة التقدم العلمي والحضاري
السريع في العالم. فإننا لا نتفق معه فيما يتعلق باللغة العربية فهي من ضمن اللغات
الحية في العالم علاوة على انها لغة القرآن الكريم ولا يمكن بأي حال من الأحوال
التخلي عنها أو استبدالها بلغة ثانية كما فعل مصطفی اتاتورك في تركيا. بل نراه
يذهب الى ابعد من ذلك عندما دعا إلى اللغة العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى
وذلك لإنهاء الازدواج في اللغة عند المصريين.[45]
وتحمس سلامة موسي لتلك المبادئ فدعا إلى نبذ اللغة
العربية الفصحى وتوحيد لغة الكلام ولغة الكتابة، ودعا الى كتابة اللغة العربية
بالحرف اللاتيني لأن ذلك بحسب رأيه "وثبة نحو المستقبل" كما طالب بأن
تتسع اللغة العربية للعلوم والفنون التي لم يعرفها العرب. والحقيقة أن سلامة موسى
لم يرفض التراث وإنما رفض الطريقة التي تعامل بها المفكرون مع التراث وانه میز بین
ماهو قديم وقديم قابل لأن يكون معاصرا لنا. ويرى أن المجتمع العربي كله إنما رضع
من الإسلام وتربى في تقاليده، ولهذا نحتاج الى دراسة القرآن الكريم كي نفهم الأصول
التي بني عليها المجتمع، مثلما نحتاج الى دراسة الأدب العربي والثقافة العربية
العامة لنعرف كيف نشأت ونضجت ثم انحطت وتدهورت. ويعد موضوع اللغة من أهم أسباب
هجوم بعض المفكرين والنقاد على سلامة موسى حتى اتهم بعدم الانتماء لقوميته وعروبته
وبأنه معاد للإسلام.[46]
وفي أواخر 1930 أخرج سلامة مجلتين أحدهما شهرية وهي
" المجلة الجديدة" والأخرى أسبوعية وهي " المصري" ليحارب من
خلالهما المستبدين والمستعمرين فضلا عن الرجعيين الذين لا يأخذون بالآراء العصرية
فيما يخص المرأة وحريتها ومقاومة الغيبيات ، وبالطبع كل تلك المهام لم يؤدها بشكل
سهل بل تعرض للكثير من الصعاب والهجمات منها أن شيخ الأزهر في سنة 1930 کتب لوزارة
المعارف يحذرها من خطر سلامة موسى ومجلاته الصحفية وخاصة مجلة " المجلة
الجديدة " التي كان سلامة يصدرها بالتعاون مع تلك الوزارة وبالفعل استسلمت
الوزارة النصيحة شيخ الأزهر بجهل وجبن كما يقول سلامة. وصحيح ما ذهب اليه الباحث
غالي شكري من أن ثورة سلامة موسى على الأدب العربي القديم من جهة، وضد الغيبيات من
جهة أخرى، قد أحدثت لبسا عند الكثيرين... فهو لايثور على التراث الفكري العربي
وإنما يثور ضد أدبائنا وكتابنا الذين يحتذون القوالب العربية القديمة في التعبير،
والصحيح هو أن يقوموا بدراسة تلك الآداب لنكتشف حلقات تطورنا الأدبي، فنستطيع دفعه
إلى الأمام. ومع ذلك فإننا نرى أن التراث العربي بكل أحداثه التاريخية وعلومه
وآدابه الكلاسيكية ولغته العربية تشكل هوية الأنسان العربي بغض النظر عما كان يتضمنه
ذلك التراث من مأخذ تسجل عليه، فالخلل والقنوط الذي تعانيه الأمة وما أصابها من
جهل وأمية وتخلف ليس مرده التراث وانما الأنسان الذي لم يعرف كيف يتعامل مع تراثه،
بل تقوقع فيه ولم يغادره ، كذلك فإنه لم يستفد لا من تراثه ولا من تجارب الأمم الأخرى. وهنا من حقنا أن نتساءل أن الغرب
الذي يدعونا موسى الى محاكاته وتقليده ألم يكن له تراث وتاريخ أسود ومظلم لاسيما
في العصور الوسطى؟؟، ألم يفخر الغرب بتراثه وتاريخه في حقب زمنية مختلفة؟؟ نعم لقد
وجه مفكرو الغرب سهام نقدهم لتراثهم لكنهم في الوقت نفسه لم يتقاطعوا معه ولم
ينبذوه ، فلماذا تحامل موسی وحنق على تراثه وتاريخه بهذا القدر وكان الأجدر به
وبكل رجال عصر النهضة من مفكرين وأدباء أن ينهضوا أولا وبالذات بالتربية والتعليم
فهما سلاحان قويان وكفيلان بتوجيه العقل العربي نحو الاتجاه الصحيح وكفيلان أيضا
بمحو كل أشكال الجهل والأمية التي هرب منها سلامة موسى إلى أوربا.
المطلب الثالث:
مشروعه النهضوي وأسباب الفشل
على الرغم من اختلاف الباحثين والمفكرين والمثقفين
بشأن شخصية سلامة موسی، الا انهم متفقون على أنه شخصية تنويرية إصلاحية مجددة
أسهمت بشكل كبير في ايقاظ المجتمع من سبات الجهل والتخلف الذي كان عليه في ذلك
الوقت. وما من شك أن مشروع سلامة موسى التنويري يحمل في طياته كثيرا من الإيجابيات
وهو أمر لا يمكن أن ينكر من مناوئيه ومنتقديه الذين ركزوا فقط على مواطن الضعف في
مشروعه هذا.
في هذا المطلب سنتناول اولا الجوانب الإيجابية ثم
الجوانب السلبية في مشروعه التنويري و سنرى فيما اذا كانت تلك الجوانب قد أسهمت في
إفشاله أو أن النتائج التي آل اليها المشروع كانت على خلاف ما قصد إليه سلامة موسى.
أولا: الجوانب الايجابية:
1- الدعوة إلى تحرير المرأة من عبودية الرجل.
2- قدم العديد من الأفكار السابقة إلى عصره وزمانه
کالدعوة الى العولمة الثقافية والفكرية ، وان المجتمع العربي سيخضع لها لامحالة.[47]
3- الدعوة إلى الديمقراطية والحرية والترويج للفكر الاشتراكي
الذي صار واحدا من أبرز رواده.[48]
4- الدعوة إلى التعليم والقضاء على الأمية التي تشكل
عقبة كبرى أمام أي تنمية ثقافية واجتماعية.
5- أسهم بشكل كبير في نشر الوعي وتثقيف الشباب
وتنويرهم من خلال مقالاته الصحفية وكتبه الأدبية
6- الدعوة الى إصلاح المجتمع وتحرير العقل من ضغوط
التقاليد وسيطرة الخرافات وفصل الدين عن الدولة.
7- الإيمان بالتغيير كأساس للوجود الإنساني وكركيزة
لتطور المجتمع، لأن المجتمع ليس نهائيا بل هو في تطور مستمر.
8- الدعوة إلى محاكاة الغرب واستلهام كل ما توصلوا
إليه من منجزات ثقافية وحضارية قائمة على العلم والصناعة.
ثانيا: الجوانب السلبية:
أشرنا آنفا
الى الجوانب المضيئة في مشروع سلامة موسى التنويري، ولكن هذا المشروع تكتنفه أيضا
جوانب معتمة اتخذ منها بعض خصومه نقطة انطلاق للهجوم عليه والنيل منه واتهامه من
ثم بالعمالة للأجنبي، وبعيدا عن رؤى هؤلاء كان غلو سلامة موسى في مجاراة الغرب
وحضارتهم من ناحية وغلوه في رفض الشرق وتراثه الميتافيزيقي من ناحية ثانية وبروز
الحركات الإسلامية الدوغمائية من ناحية ثالثة قد شكل سببا مهما في عدم رواج
واستمرار مشروعه النهضوي في الربع الأخير من القرن الماضي، ولو استقصينا واقع
مجتمعاتنا العربية عموما ومصر على وجه الخصوص لوجدنا أن مشروع سلامه موسی انتهى
تقريبا الى الفشل بعد تشبث تلك المجتمعات بكل انواع الميتافيزيقا وبعدها عن المنهج
العلمي في تفسير ظواهر المجتمع وتراجعه الكبير عن كل مظاهر التقدم والسلوك الحضاري
الذي كان عليه في فترة الخمسينات والستينات والسبعينات.
وبدلا من فصل الدين عن الدولة صار الدين يتحكم في
مسارها، وصارت الأيديولوجية الدينية المنغلقة تسيطر على معظم المجتمعات العربية،
فضلا عن تراجع التعليم وشيوع الاستبداد وهذه كلها مؤشرات تؤكد أفول مشروع موسی
التنويري الذي كافح طوال سنوات من اجل نشره بين الناس، فضلا عن ذلك كانت هناك
عوامل سلبية أسهمت بشكل مباشر او غير مباشر في تقويض مشروعه من أهمها:
1- محاولته في جعل المجتمع العربي صورة طبق الأصل من
المجتمع الغربي وهذا أمر مستحيل لاختلاف الطبيعة التركيبية الاجتماعية التي صدروا
عنها.
2- تجاوزه للعقيدة الدينية المسلمة والمسيحية وتجاهل
ما لها من قيمة تربوية وروحية عند الناس.
3- عدم تعامله مع الجوانب المشرقة في التراث والتاريخ
العربي بشكل إيجابي.
4- اتهامه
للغة العربية بأنها لغة بدوية (غير حية) ولا تواكب التطور.
5- النزوع نحو الفرعونية والابتعاد عن القومية
العربية.
[1] طٰهٰ
حسين، أديب وناقد مصري، لُقّب بعميد الأدب العربي. غيّر الرواية العربية، مبدع
السيرة الذاتية في كتابه «الأيام» الذي نشر عام 1929. يعتبر من أبرز الشخصيات في
الحركة العربية الأدبية الحديثة. لا تزال أفكار ومواقف طه حسين تثير الجدل حتى
اليوم
[2] أنور الجندي، كتاب المعارك الأدبية، الباب العاشر معارك النقد بين
المجددين، الفصل الثامن: بين سلامة موسى و خصومه، الاسكندرية، 1983 ص 653.
[3] المرجع نفسه، نفس الصفحة.
[4] معارك فكرية، خصوم سلامة موسى، الكاتب مجهول، مجلة المصري اليوم،
العدد 1024، تاريخ النشر: الجمعة 11 نوفمبر 2009، ص 12
[5] جهاد فاضل، بين العقاد وطه حسين و سلامة موسى، مجلة الرياض، بيروت
لبنان، العدد 13408، مارس 2005.
[6] جهاد فاضل، المرجع السابق.
[7]عباس محمود العقاد أديب ومفكر وصحفي وشاعر مصري، ولد في أسوان عام 1889م،
وهو عضو سابق في مجلس النواب المصري، وعضو في مجمع اللغة العربية، لم يتوقف إنتاجه الأدبي بالرغم من الظروف القاسية التي مر
بها؛ حيث كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات، ويعد
العقاد أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر،
وقد ساهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من
مائة كتاب في مختلف المجالات، نجح العقاد في الصحافة، ويرجع ذلك إلى ثقافته
الموسوعية، فقد كان يكتب شعراً ونثراً على السواء، وظل معروفا عنه أنه موسوعي
المعرفة يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم الاجتماع.
[8] أنور الجندي، كتاب المعارك الأدبية، المرجع السابق، ص 657.
[9] المرجع نفسه، نفس الصفحة.
[10] المرجع السابق ، معارك فكرية،
ص 12
[11] المرجع
نفسه، نفس الصفحة.
[12] نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا، والمعروف باسمه
الأدبي نجيب محفوظ، وهو روائي، وكاتب مصري. يُعد أول أديب عربي حائز على جائزة
نوبل في الأدب. كتب نجيب محفوظ منذ الثلاثينات، واستمر حتى 2004.
[13] فؤاد دواره، عشرة أدباء يتحدثون، مكتبة الأسرة، 2012، ص 67.
[14] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[15] المرجع السابق، ص 68.
[16] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[17] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[18] محمد عمارة مصطفى عمارة من
مواليد 04 ديسمبر 1931 2020 هو مفكر إسلامي مصري، ومؤلف ومحقق وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضو هيئة كبار علماء الأزهر، وعضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، ورئيس تحرير مجلة الأزهر حتى 2015، حقق لأبرز أعلام اليقظة الفكرية العربية الحديثة أمثال محمد عبده و سلامة موسى و غيرهم.
[19] باسنت موسى، سلامة موسى واتهامات الاسلاميين لمشروعه الفكري،
الحوار المتمدن، القاهرة، 2008، ص 14.
[20] باسنت موسى، المرجع السابق ، ص 14.
[21] ماهر الشريف هو فيلسوف و مفكر و مؤرخ و
يساري، ولد في دمشق لأب
فلسطيني وأم سورية عام 1950 من
آثاره رهانات النهضة في الفكر العربي.
[22] ماهر الشريف، سلامة موسى
نموذجا للتطوير، مكتبة الاسكندرية، جمهورية مصر العربية، 1993، ص 7.
[23] ماهر الشريف، رهانات النهضة
في الفكر العربي، ط2، مكتبة رام الله، 2000، ص 112
[24] المرجع نفسه.
[25] أنظر مقدمة كتاب سلامة موسى: "اليوم والغد
" ط1، المكتبة العصرية بالقاهرة،
1928.
[26] عبد الملك أنور، دراسات في
الثقافة الوطنية، دار الطليعة للنشر، بيروت، 1997، ص 122.
[27] محمود أمين ، الانسان موقف،
المؤسسة العربية للنشر، بيروت لبنان، 1972، ص 94.
[28] سلامة موسى، التثقيف
الذاتي، ط2، لجنة التأليف و الترجمة و النشر، القاهرة، 1946، ص 73.
[29] المرجع نفسه، ص 74.
[30] سلامة موسى، مقدمة
السوبرمان، ط1، دار الهلال للنشر، القاهرة، 1910.
[31] سلامة موسى، نظرية التطور و
أصل الانسان، المكتبة العصرية للنشر، ط1، القاهرة ، 1957، ص 51.
[32] المرجع نفسه، ص 52.
[33] سلامة موسى، هؤلاء علموني،
الخانجي للنشر، ط1، القاهرة، 1957، ص 31.
[34] محمود الشرقاوي، سلامة موسى
المفكر و الانسان، دار الهلال، القاهرة، 1968، ص 4.
[35] الشريف ماهر، مقال منشور
على موقع الحوار المتمدن، رابط المقال : https://m.ahewar.org/ تاريخ الاطلاع: 02/05/2021 على الساعة: 23:51.
[36] عبد الرحمان بدوي، فلسفة
العصور، دار القلم للنشر، بيروت لبنان، 1979، ص 12.
[37] سلامة
موسى، تربية سلامة موسى، دار الهلال ، القاهرة، ص 212.
[38] المرجع نفسه، ص 213.
[39] كان سلامة موسى مقتنعا بأن اعتلاء
الدين للدولة يضر بالدين و يحط من شأنه، فالدين يجب أن يتجرد من أي سلطان مادي أو
حكومي حتى يستنبط قواه الروحية المستقلة و يصل للقلوب بدون مساعدة خارجية.
[40] تربية سلامة موسى، المرجع
السابق، ص ص 219-220.
[41] المرجع نفسه، ص 272.
[42] غالي شكري، المرجع السابق، ص
46.
[43] محمود الشرقاوي، المرجع
السابق، ص 23.
[44] المرجع نفسه، ص 24.
[45] فايزة
تومان الشمري، المشروع التنويري لسلامة موسى، الجامعة المستنصرية، 2019، ص 11.
[46] المرجع نفسه، ص 12.
[47] عبد
الرحمان بدوي، المرجع السابق، ص 24.
[48] محمود الشرقاوي، المرجع
السابق، ص 112.