JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->

الوظائف السياسية والادارية والمهام الدبلوماسية لأهل الذمة في البلاد الأندلسية

خط المقالة

 الوظائف السياسية والادارية والمهام الدبلوماسية لأهل الذمة في البلاد الأندلسية

     لقد احتل أهل الذمة مكانة كبيرة في المجتمع الاسلامي نظرا للتسامح الديني الذي لاقته هذه الفئة والحرية التي أصبحت تتمتع بها في المجتمع المسلم عامة ، اذ أن التشريع الاسلامي لم يغلق دون اهل الذمة أي باب من ابواب الصنائع والاعمال أو حتى تقلد المناصب والمسؤوليات داخل كيان الدولة الاسلامية .

إذ  كان حضورهم واضح وراسخ في عديد الأعمال والصنائع التي تدر ارباحا وافرة ، فكان منهم صيارفة وتجار واصحاب ضياع وأطباء وكتبة.

ضف الى ذلك كان منهم من تقلد المسؤوليات  كانت لهم بصمات واضحة في تسيير شؤون الحكم وادارته ، وعليه يمكن لنا التطرق الى بعض المسؤوليات والوظائف التي كان يشغلها أهل الذمة في البلاد الاندلسية.

 

 




 

 

 

 

 

 

الوظائف السياسية والإدارية لأهل الذمة في البلاد  الاندلسية

1- الــــــــــوزارة

     يمكن القول بان منصب الوزارة لم يظهر فعليا الا في عهد الامير الاموي محمد بن عبد الرحمن الاوسط – (ت 273 هـ) وكذا ابنه عبد الله ، وتفاوتت أهمية هذا المنصب من مرحلة الى أحرى ، ففي عهد ملوك الطوائف انحطت نوعا ما مكانة الوزير حيث صار يمنح للطبقة الوسطى من الموظفين و الكتاب ، وهو ما جعل المقري في نفح الطيب يقول "عادة أهل الأندلس أن الوزير هو الكاتب"[1].

     وقد ظهر في هذه الفترة وزراء اشتهروا وذاع صيتهم من أمثال ابي بكـــــــــر بن عمـــــــار وزير المعتمد بن عباد باشبيلية ، الوزير بن الحضرمي الذي استوزر للمتوكل ابن الأفطس صاحب بطليوس .

وقبل هذا كان منصب الوزارة قد اختفى كليا في عهد المنصور بن عامر وولديه من بعده    ( 366هـ - 399هـ )، اذ حجبه منصب الحجابة الذي شغله المنصور من خــــــــلال هذا المنصب تحكم في تسيير دولة بني أمية قبل انهيارها .

ويبدو أن أهل الذمة قد تمكنوا من تقلد منصب الوزارة ، اذ كان من غير المسموح لهم تقلد هذه المناصب وهو ما جعل بن عذاري في البيان المغرب عند ذكــــــــــــــــــره لـلوزير اليـــــهودي يوسف ابن إسماعيل بن نغزالة يقول بأنه « لم يعرف ذلة الذمة ...»[2] ،وقــــــــــد وصل هؤلاء  (أهل الذمة) لهذا المنصب خاصة في عصر ملوك الطوائف ، حيث شهد بلاط الأمراء تنافسا شديدا في جميع المجالات ، اذ حاول أمراء  الطوائف ضم العلمـــــــــاء والشعــــــــــــــــراء الأطباء الى بلاطهم تفاخرا واظهارا للأبهة .

   وكثيرا ما كان أهل الذمة ( اليهود والنصارى) يدبرون الفتن والمؤامرات مما سبب قيام ثورات العامة  وقد تنتهي بقتل هؤلاء الوزراء . إن استقراءا بسيطا للمصــــادر التاريــــــــخية والأندلسية خاصة يبين كثرة اليهود والنصارى الذي شغلوا هذا المنصب مثل النصرانــــــي ششندو الذي استوزر للمعتضد بن عباد فرفع مكانته[3].

     كما كان اليهوديين إسماعيل وابنه يوسف ابن نغريلة قد شغلا هذا المنصب لحبوس وابنه باديس للصنهاجيين بغرناطة ، وهو ما جعل ابن حزم الظاهري (ت 456 هـ) يؤلف كتابا في الرد على ابن النغريلة اليهودي كان رده في ذلك شديدا ، منتقدا الواقع السياسي القائم في تلك الفترة ، قال ابن حزم » اللهم انا نشكو اليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن اقامة دينهم ، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم فيها معادهم ودار قرارهم ...» في كلام كثير[4].

وكذلك تحرك فقيه آخر من  فقهاء الأندلس والذي كان له وقع في أسماع العامة بتأليفه لقصيدة يذم فيها اليهود وسيطرتهم على دواليب الحكم بغرناطة ، هذا الفقيه هو أبو إسحاق الالبيري (  459 هـ) ،الذي قام بتأليف قصيدته التي كانت سببا في مقتل ابن النغريلة وهيجان العامة بغرناطة سنة (459 هـ) ، اذ يقول عنها :

ألا قل لصنهاجة أجمعين       بدور الزمان أشد العرين

مقالة ذي مقة مشـــــفق          صحيح النصيحة دنيا ودين

لقد زل سيدكم زلـــــة             أقر بها أعين الشامتين

تخير كاتبه كــــــــافر              لشاء كان من المؤمنين

فعز اليهود به وانتموا         وسادوا وتاهوا على المسلمين[5]

وتذكر المصادر الاندلسية هذا الزير بأسماء كثيرة فهو: ابن نغزالة وابن النغريلة وابن نغرالة والنغدلة وغيرها[6].

     ولكي لا يقع الخلط فان هناك وزيرين يهوديين ، فالأول اسماعيل بن يوسف بن النغريلة او شموئيل بن يوسف بن هالنكيد كما يسميه أهل ملتة[7]، وهذا استوزره حبوس وابنــــــــه باديس الصنهاجيين  فرفعوه عاليا بتقلده الوزارة والكتابة وسائر الاعمال حتى علا شأنه ، واتخذ عمالا ومتصرفين وقوي نفوذ اليهود في ايامه فاستطالوا على المسلمين[8].

وأما الثاني فهو يوسف بن اسماعيل بن النغريلة الذي استوزر لباديس بن حبوس وسوس «     رد عليه ابن حزم في مؤلفه» الرد على ابن تغريلة اليهودي وكان بينهما مدارسة ومناظرات ذكرها ابن حزم في كتابه » الفصل في الملل والأهواء والنحل «.

     هذا الوزير استطال بمنصبه مما جعل ابن عذاري يصفه بأنه  « لم يعرف ذلة الذمة ولا قذر اليهودية »[9]. كما كانت له عيون بالقصر من نساء وفتيان « شغلهم الملعون بالإحسان اليهم والانعام عليهم ، فكان لا يخفى عليه شيء من أمور باديس إلا يعلمه ويعلم اليهود به»[10]، ولتعلم مكر ودهاء هذا الوزير وما وصل اليه في تسيير شؤون غرناطة خاصة بعد تدبيره لمقتل ولي عهد باديس[11] واشتغال هذا الأخير بالبطالة ومعاقرة الخمرة ومؤامرته([12]) التي أدت الى مقتله من اتصاله بابن صمادح صاحب المرية واغرائه للسيطرة على غرناطة ما عبر عنه ابن عذاري " فلا يكاد باديس(الصنهاجي) يتنفس الا ويعلم اليهودي ذلك " .

قتل هذا الوزير حينما ثارت العامة على اليهود (459 هـ) ، فدخلوا عليه، فاختبأ في بيت فحم وسود وجهه بالفحم كي لا يعرف ، فعرف و قتل وصلب على باب مدينة غرناطة ، وقتل معه من أهل ملته مقتلة عظيمة ونهبت دورهم[13] وكما قلنا بأن سبب مقتله : ذيوع قصيدة الألبيري الذي ذم فيها تولية اليهود للمناصب الحكومية ، وكذا اتصاله بابن صمادح صاحب المرية.

2- السفارات والبعثات الدبلوماسية

     اشتهر بعض من أهل الذمة في مجال السفارات والبعثات الدبلوماسية وخاصة في عهد عبد الرحمان الناصر الأموي (277هـ - 350 هـ) ، وكذا ابنه الحكم المستنصر من بعده(302 هـ - 366 هـ ) ، حيث اشتهر من أهل الذمة السفير والطبيب في نفس الوقت  حسداي بن اسحاق أو ابن شيروط  والذي اعتمد عليه الناصر الأموي في عديد السفارات.

     هذا اليهودي كان عالما وطبيبا وأبرز من مثل الثقافة اليهودية في قرطبة،  وقام بمهمات دبلوماسية عديدة ، كما كان مشرفا على عملية الترجمة ، فنجد الخليفة الأموي يعتمد عليه في سفارة ترأسها حسداي لعقد السلم مع صاحب برشلونة ( شنير بن منفرد[14]) ، كما كان هذا اليهودي قبل ذلك في البعثة التي ارسلها الناصر الأموي إلى ملك جليقية      ( أردون بن ردمير ) سنة (345 هـ ) والتي كان يرأسها محمد بن حسين[15].

     وكما قلنا أن ( حسداي بن شبروط أو شبرط ) كان طبيبا ، فتذكر المصادر التاريخية قصة طريفة وقعت لصاحب ليون شانجة الذي قامت عليه ثورة العامة سنة ( 347 ه ) وخلعوه وقاموا بتنصيب ( أردونيو الرابع) ، وكان هذا بسبب بدانةشانجة حتى قيل أنه أصبح لا يمتطي الخيل لبدانته ، فاتصلت جدته صاحبة نافار بالناصر وسعت لإرسال الطبيب     ( حسداي ) في مهمة سياسية –طبيبة، فكان لها ذلك[16]. كذلك نجد في عهد الناصر سفارة قادها اسقف مدينة اشبيلية ( عباس بن المنذر ) إلى بلاط راميرو الثاني ملك أراغون[17] .

     ويبدو أن السفارات والبعوثات الدبلوماسية قد توقفت نوعا ما في عهد الدولة العامرية خاصة في فترة حجابة ابن عامر (327هـ -392هـ) والذي اشتغل كثيرا بغزواته ، غزو الممالك النصرانية وتوسيع وتوطيد حكم بني أمية في عهد هشام المؤيد وكذا انشغاله بالفتن الحاصلة بالعدوة المغربية . وكذلك يمكن القول عن فترة حكم ابنه عبد الملك.

     تذكر المصادر التاريخية احتكام قومس جليقية مندس بن غنزاليز الوصي على ملك ليون الصغير الفونسو الخامس ، وبين قومس قشتالهشانجة بن غرسية ، حيث احتكم هؤلاء عند عبد الملك بن المنصور بن ابي عامر ، فانتدب هذا الأخير لهذه المهمة عددا من النصارى منهم اصبغ بن عبد الله بن نبيل وكان ذلك سنة (394هـ )[18].

     اما في فترة ملوك الطوائف ، فقد تنافس هؤلاء لإرضاء ملوك النصرانية وتسابق أمراء الطوائف لدفع الجزية، مثل ارسال المعتضد بن عباد صاحب اشبيلية للسفارة يرأسها وزيره النصراني ششندو والتي تمحورت أساسا على كيفية دفع الجزية وترتيبها[19].

وهذا الوزير والسفير ( ششندو ) في عهد المعتضد أصبح سفيرا فيما بعد لدى الملك الفونسو وهذا ما ذكره عبد الله بن بلكين صاحب التبيان[20].

     لا يمكن على كل حال احصاء السفارات الكثيرة في عهد الخلافة أو في عهد ملوك الطوائف ، ولقد تعددت أهداف هذه البعثات والسفارات ، فمنها ما كان لإقامة الصلح والاتفاق على شروط معينة ، ومنها ما كان لترتيب وضبط دفع أموال الجزية كما كان الحال عند ملوك الطوائف نظرا للضعف الذي ساد الامارات الاسلامية، ومنها ما كان هدفه طبي كما رأينا في سفارة الناصر للطبيب (حسداي) لعلاج صاحب ليون ( شانجه ) والتي تكللت بالنجاح.

     وبالنظر في طبيعة هذه السفارات في اعتماد الامراء والخلفاء على أهل الذمة من النصارى واليهود، قد يعود السبب الرئيس في ذلك الى اتقان هؤلاء للغات الأمم النصرانية ، وهو ما نستشفه من قصة سفراء ورسل حلويرة عمة أمير جليقية وكافلته، حيث يقول ابن حيان في المقتبس” ... فتكلموا عن مرسلتهم بكلام بدا فيه بعض الجفاء ترجمه نصا عنهم أصبغ بن عبد الله بن نبيل قاضي النصارى بقرطبة المتولي ذلك عن الأعاجم ، أنكره الخليفة لوقته...[21] ، وهذا النص يدل على اسبقية أهل الذمة واتقانهم للترجمة عن السفراء وكذا ارسالهم في بعوث لملوك الدول الأخرى.

 3- الدسائس والمؤامرات

     كان أهل الذمة بالأندلس سببا للفتن التي دارت في بلاط حكام الامارات الاسلامية والتي كانت تنتهي الى اسماع العامة ، فتثور هذه الأخيرة ، مما يؤدي الى قيام ثورات قد تأتي على الأخضر واليابس، ولعل من أشهر المؤامرات على الاطلاق ما قام به وزير حبوس وابنه باديس الصنهاجيين من تدبير بلكين ابن باديس ولي العهد، حينما علم هذا الوزير ببغض بلكين له فقدم له طعاما مسموما ، وادعى ابن النغريلة اليهودي أن الفتيان والجواري بالقصر هم من فعلوا ذلك[22]، مما ساعد هذا الوزير في تنفيذ مؤامراته اثر انشغال  أمير غرناطة باديس بالخمرة وخاصة بعد مقتل ولي عهده وهناك سبب أخر وهو : أن الوزير ابن النغريلة كانت له عيون بقصر غرناطة وصفها ابن عذارى بـ « ... فلا يكاد باديس يتنفس والا ويعلم اليهودي ذلك[23]» .

    ولعل القاصمة في مؤامرات الوزير اليهودي هو تأمره مع صاحب الميرية ابن صمادح واغرائه بدخول غرناطة وامتلاكها وهو ما أدى الى هيجان العامة وقيامهم بثورة أدت في النهاية الى مقتل هذا الوزير بعد أن وجد في بيت الفحم متنكرا ، فقتل وقتل معه من أهل ملته الكثير[24].

     لقد أدى الوضع السياسي في غرناطة وفي كامل الاندلس من مثل سيطرة أهل الذمة على المناصب السلطوية الى بروز طبقة من الفقهاء أنكرت على الحاكم هذه التصرفات من تولية اليهود والنصارى واحكام سيطرتهم على دواليب الحكم مع ما عرف على ملوك وأمراء الاندلس من التشاغل بلذات الدنيا والانغماس فيها وكذا توطيد علاقاتهم بالمماليك النصرانية مما انجر عنه اعطائهم الجزية كما سبق القول ، ولعل من ابرز هؤلاء الفقهاء ابن حزم في رسالته الرد على ابن نغريلة اليهودي وكذا الفقيه ابي اسحاق الالبيري في قصيدته المشهورة والتي كانت سببا مباشرا في تهييج العامة على اليهود وبالتالي قتل الوزير بن نغريلة سنة    ( 459 هـ )، فقد عرف هذا الفقيه من اين تأكل الكتف بذكر العصبية القبلية المتمثلة في صنهاجة .

ألا قل لصنهاجة أجمعين     بدور الزمان وأسد العرين[25]

     وما يؤكد تذمر هؤلاء الفقهاء من الوضع ما ذكره ابن حزم في رسائله اذ يقول«... وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أند لسنا هذه ، أولها عن أخرها محارب لله تعالى ورسوله وشاع في الأرض بفساد ، للذي ترونه عيانا من شنهم الغارات على أموال المسلمين وعلى الرعية التي تكون في ملك ضارهم، واباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها ، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين ، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية والضريبة من أهل الاسلام معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله...»[26] .هذا مما اشتهر من العلماء والفقهاء والا فغيرهم كثير.

ومن مؤامرات اليهود قتلهم للشخصيات الاسلامية البارزة من أمثال موسى ابن مفروح، الذي اشتهر في مجالات عدة أدت بالأمير ابي حفص ابن الأمير على ابن يوسف ابن تاشفين المرابطي الصنهاجي الى توليته جميع الاعمال ، وقد اشتهر ابن مفروح بأن له خط بارع وأدب صالح ونفوذ في الحساب ، وكانت له نفس ذكية وهمة عالية فكانت مقتله على يد يهودي ينتحل الطب سقاه السم وكان ذلك سنة 522هـ[27].

     قام أهل الذمة والمعاهدون بتأليب الممالك النصرانية للسيطرة على بلاد المسلمين وهذا ما شكل خطرا كبيرا على الوجود الاسلامي بالأندلس ، ففي عصر الدولة المرابطية كان أذى المعاهدين من اليهود والنصارى قد بلغ ذروته وذلك بقيامهم تقديم  المساعدة لابن ردمير وتقويته على المسلمين ، مما أدى بالفقيه أبي الوليد ابن رشد للعبور من عدوة الاندلس الى المغرب للقاء الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين سنة 520هـ وقيل 530هـ[28] و هو العبور الذي تم من خلاله بناء سور مدينة مراكش لتحصينها وذلك برأي الفقيه أبي الوليد ابن رشد وخاصة مع ظهور ابن تومرت والخوف من دخوله مراكش .

     إن صنيع أهل الذمة هذا بتقديم المساعدة للنصارى على حساب المسلمين ، اعتبره ابن رشد وكذا الجهة  الرسمية للدولة المتمثلة في دولة المرابطين بقيادة علي بن يوسف بن تاشفين ، بمثابة نقض العهد والخروج من الذمة، ماأدى بالفقيه بن رشد الذي افتى بتغريبهم وإجلائهم عن أوطانهم وقامت السلطة بتنفيذ مضمون الفتوى حيث قام الأمير المرابطي بإجلائهم إلى نواحي مكناسة وسلا وغيرها[29].

     كذلك ذكر ابن عذارى من قتل رجل بقرطبة ووجوده في أحياء اليهود مما أدى الى هيجان العامة[30]، هذه الحادثة كانت ضمن مجموعة من الحوادث التي شكلت نقطة إستفهام كبيرة، تمثلت في مقتل الفقيه ابن الحاج التجيبي صاحب النوازل سنة 529 هـ والتي لا تزال قضية مقتله غامضة خصوصا مع النجاحات الكبيرة المحققة من طرف الموحدين، وكذا وجود الجانب المتطرف من الصوفية التي كانت تنتقد فئه الفقهاء وتنعتها بالميول الى السلطان[31]، ولا يستبعد أن يكون الفقيد ابن الحاج مخططا له من طرف اليهود ، مع وجود حدث أخر تمثل في ثورة السفلة على الفقيه ابي بكر بن العربي .

     جل المصادر التاريخية لم تعط تفسيرا حول هذه الحوادث ، فباستثناء عصمت دندش التي حاولت تقريب الآراء في هذه القضية ، فلا يستبعد ابدا أن تكون هذه الأعمال من تدبير اليهود خصوصا اذا علمنا أنه كان لهم أحياء خاصة، وكانت لهم أسماء بارزة في دواليب الحكم، ولا يخفى على عاقل مدى الدهاء والمكر الذي يتصف به هؤلاء.

ومما يقوي هذا الرأي تبوأ أهل الذمة من اليهود والنصارى لمناصب حساسة كما كان ابي الربيع اليهودي خازن الأموال في دولة باديس بن حبوس في غرناطة[32].

     ولعل من الفتن والمؤامرات التي قام بها اليهود ما ذكره ابن بلكين من قيام يهود اليسانة  ( وهي أعمال مقاطعة غرناطة) بالامتناع عن دفع الضريبة ، ومقدمهم في ذلك ابن ميمون الذي نادى في اليهود « أن جدوا معشر بني في حماية أموالكم[33]» .ولم تخمد هذه الفتنة الا بعد قيام ابن بلكين بمداخلتهم والقبض على ابن ميمون[34].

     ان المتتبع لحركة التاريخ لأهل الذمة في الاندلس ابان الحكم الاسلامي ، يظهر له جليا ذلك التذبذب لهذه الفئه بين الولاء للمسلمين او التبعية للمالك النصرانية ، جعل من هذا التذبذب عاملا من عوامل عدم الاستقرار فبالإضافة الى ما سبق سرده من دسائس ومؤامرات ضد الحكم الاسلامي من طرف أهل ، فيمكن  لنا في هذه العجالة أن نذكر بعض الثورات التي كان لها صيت وأدت الى عدم الاستقرار ردحا من الزمن في الاندلس . فنجد ثورة طليطلة التي كانت سنة 147 هـ عندما ثار واليها هشام بن عروة  على عبد الرحمان الداخل .....ثارت من جديد ثورتها المعروفة بوقعة الحفرة التي كانت سنة 181هـ  وقد ضمت الى جانب نصارى ويهود المدينة عناصر المولدين من اصول اسبانية[35]مرات عديدة في سنة 240 هـ و 300هـ .

وكل مرة يستنجد هؤلاء بالممالك النصرانية[36] وهذا يدل دلالة واضحة بأن أهل الذمة من يهود ونصارى ومستعربين لم يستقر لهم قرار ولم تهدأ نفوسهم الا بعد سقوط آخر قلاع الاندلس مدينة غرناطة .

     اضافة الى هذه الثورات هناك ثورات أخرى على غرار ثورة ماردة سنة 212هـ قام بها اليهود والنصارى ولقيتا دعما من الامبراطور  الفرنجي لويس العفيف[37] ولا يمكن لنا أن نغفل عن ثورة عمر بن حفصون الذي ارتد  عن الاسلام وتنصر ، فكسب ود كثير من النصارى في صفوف جيشه حيث تذكر الروايات التاريخية ان جيش المسلمين ضم عدد كثيرا من الفقهاء والقراء الذين كانوا يرتلون آيات القرآن لتشجيع الجنود وشحذ همهم في حين جلب معه ابن حفصون العديد من القساوسة والرهبان الذين رتلوا بدورهم الانجيل[38] .

     إن القراءة المتأنية لمجريات التاريخ الأندلسي ووضع اهل الذمة في البلاد الاندلسية ليظهر أن هذه الفئة قد حظيت بسماحة وحرية قل نظيرها مما جعلها تتآمر على الأمراء والخلفاء المسلمين وتكون عونا وعدا للممالك النصرانية .

4- خدمة أهل الذمة في  الجيش

أ- النصارى: لقد استعان المسلمون بالنصارى في مجال الخدمة العسكرية فقد اشارت المصادر الى انخراط النصارى في الخدمة بجيوش ملوك الطوائف، ولقوا مقابل ذلك مرتبات كبيرة. ومن أمثلة ذلك ما فعله الكمبيطور أثناء خدمته في بلاط ملوك سرقسطة ، فقد اشتد نفوذه حتى أصبح بجيشه الصغير الذي كونه من النصارى المرتزقة والنصارى المعاهدين قوة يحسب لها ألف حساب ،بل غدا وكانه يفرض بحلفه ومعاونته على سرقسطة نوعا من الحماية ، ثم بدأ يعمل لحسابه حتى نجح في الاستلاء على بلنسية[39].

     لم يكن حضور النصارى ومشاركتهم في جيوش ملوك الطوائف دويلاتهم على الجندية البسيطة بل ارتقوا الى مناصب قيادية عليا ، فقد اورد المقري نصا بالغ الأهمية يحدث فيه عن نصراني اسمه خيار جاء في نفح الطيب للمقري ̋. ... زأمر الحاجب المنذر بن يحي التجيبي صاحب سراقسطة بعرض بعض الجند في بعض الايام ، ورئيسهم مملوك له روحي يقال له خيار ..... ، فجعل ينفخ في الفرن ليجتمع أصحابه غلى عادة لهم في ذلك[40]...̏ .

     ويظهر جليا للعيان أن المسلمين في جميع المراحل التاريخية الي مرت بها الاندلس قد استخدموا النصارى واستفادوا من خدماتهم ، فمثلا في عصر المرابطين استخدموا النصارى في الجيش على نطاق واسع ويرجع سبب ذلك الى التهديدات والمخاطر المحدقة للوجود المرابطي في المغرب والأندلس، ولهذا فقج تمت الاستعانة بالنصارى في الجيش المرابطي منذ عهد الأمير يوسف بن تاشفين الذي يعود اليه السق في استخدام النصارى[41].

     ويذهب انتقاد بعض الباحثين والمهتمين بهذا الشأن ان استعانة المرابطين بالنصارى واستخدامهم  في المجال العسكري قد ساهم في تقوية الجيش المرابطي ، فقد أدخلوا طرق جديدة في القتال مستوحات من فروسية القرون الوسطى[42].

     كما انه يشكل ضرورة ، فقد اشار يوسف بن اشباخ الى أن هذا العدد الضخم من النصارى في الجيش المرابطي كان ضرورة لقتال الموحدين ، كم أن الحاجة دعت اليهم لأن التجارب دلت على أن النصارى الذين يجهلون تعاليم المهدي الدينية هم أفضل في مقاتلة الموحدين من المغاربة المسلمين الذين يرى معظمهم في المهدي نبيا ورسولا[43].

ب-اليهود: لم تذكر المصادر التاريخية أي مشاركة لليهود في الجيش ، وذلك راجع الى نزوح هذه الفئة الى التجارة والعلم ن اللهم الا ما كان من اسهام الوزير اسماعيل بن النغريلة في بعض المعارك والحروب التي خاضتها امارة غرناطة[44].

كما كانت لابن الوزير يوسف مشاركة في قيادة الجيش لإمارة غرناطة حيث حصل على ثقة الأمير باديس بن حبوس ، عندما اوكل اليه مهمة ادارة الحرب مع اشبيلية.


[1] المقري أحمد بن أحمد:  نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، (تح): احسان عباس ، ج4، دار صادر، بيروت

[2]  ابن عذاري : المصدر السابق ، ص 264 .

[3] دندش عصمت عبد اللطيف ، دراسات اندلسية في السياسة الاجتماع، دار الغرب الاسلامي ، تش ، ط1 ، 2009، ص91.

[4] ابن حزم، الرد على ابن التغريلة ، تحقيق: احسان عباس ، مكبة دار العروبة ، مصر ، 1960 ، ص45 .

[5]  المقري: المصدر السابق، ص 322 .

[6]  عبد العزيز شكاي ، حضور أهل الذمة في المجتمع الأندلسي : عامل استقرار أم باعث فوضى ( 459 هـ . 522هـ/ 1066م . 1128م).

[7]  أحمد شحلان : المرجع السابق ، ص107.

[8] ابن عذارى : المصدر السابق ، ج3، ص264.

[9] ابن عذارى : المصدر  نفسه ، ص264 .

[10] ابن عذارى : المصدر السابق ، ص 265 .

[11] ابن عذارى: المرجع نفسه ، ص265.  وذكر قصة مقتله عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس في التبيان ، انظر     ( عبد الله بن بلكين ، التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة بن زيري في غرناطة ، مكتبة الثقافة الدينية).

[12]  لسان الدين ابن الخطيب: الاحاطة في اخبار غرناطة ، ط2، تحقيق: محمد عبد الله عنان ، ج1، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، مصر ، 1973 ، ص 440.

[13] المصدر نفسه ، ص 440 .

[14]  ابراهيم محمد أل مصطفى، سفارات الاندلس الى  ممالك اوروبا المسيحية الكاثوليكية، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة ، ط1، 2013، ص145 .

[15]  ابن عذاري : المصدر السابق ، ص221.

[16]  سالم السعيد عبد العزيز : قرطبة حاضرة الخلافة والاندلس، دراسة تاريخية عمرانية اثرية في العصر الاسلامي ، مؤسسة شباب الجامعة للنشر ، الاسكندرية ، 1917 ، ج1، ص 69-70 .

[17] ابراهيم محمد ال مصطفى : المرجع السابق، ص 150 .

[18] ابن عذاري : المصدر السابق ، ج3، ص 10 .

[19]  فضيل بو الصيف : المرجع السابق ، العلاقات السياسية بين الاندلس الاسلامية واسبانيا النصرانية في عصر ملوك الطوائف، مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الوسيط، جامعة منتوري ، قسنطينة، 2010- 2011 ، ص72 .

[20] عبد الله بن بلكين:  المرجع السابق، ص95.

[21] ابو مروان حيان بن خلف ابن حيان الاندلسي: المقتبس في أخبار بلد الاندلس، المكتبة العصرية، صيدا ، بيروت، ط1، 2006، ص111.

[22] ابن عذارى : المصدر السابق ، المرجع السابق ، ص 57 .

[23] المرجع نفسه ، ص265 .

[24]  لسان الدين ابن الخطيب : المصدر السابق ، ، ص 266 . انظر ( المقري ، نفح الطيب ، ج4 ، ص 322) .

[25]   المقري : المصدر السابق ، ص 322.                                                    

[26] ابن حزم : رسائل ابن حزم، تحقيق احسان عباس ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1987، ص173.

[27]  ابن عذارى: المصدر السابق ، ص- ص 76-77.                               

[28]  مؤلف مجهول ، الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية، (تح) سهيل زكار وعبد القادر زمامة ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاءن المغرب، ط1، 1979، ص ص 90-91.

[29]  مؤلف مجهول: المصدر السابق ، ص 91.

[30]  ابن عذارى : المصدر السابق ، ج4، ص 93.

[31]  عصمت عبد اللطيف دندش، الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين، دار الغرب الاسلامي، بيروت، ط1، 1988، ص 64.

[32] عبد الله بن بلكين ، المرجع السابق، ص 163.                                                                   

[33]عبد الله بن بلكين :المرجع نفسه، ص164.

[34] المرجع نفسه، ص 165.

[35] عبد اللطيف مصطفى رجبن ، أهل الذمة في الأندلس خلال الحكم الأموي (عصري الامارة والخلافة ).رسالة ماجستير في جامعة اليرموك ، تخصص تاريخ الاسلامي وحضارة اسلامية ن، 1420/ 1999 ، ص162.

[36] المرجع نفسه، ص162.

[37] المرجع نفسه ، ص163.

[38] عبد اللطيف مصطفى رجب، المرجع السابق، ص165.                                             

[39] محمد الأمين ولد أن ، النصارى واليهود من سقوط الدولة  الاموية الى قيامة المرابطين ( 422هـ الى 537هـ) ، (1020 م الى 1141 م) أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في تاريخ الغرب الاسلامي ، جامعة وهلران ، قسم التاريخ وعلم الاثار ، السنة 1433هـ الموافق 2012 م ، ص59.

[40] المقري ، المرجع السابق، ص265.                    

[41]  محمد الامين ولد أن ، المرجع السابق ، ص 61

[42] المرجع نفسه ، ص60 .

[43] المرجع نفسه ، ص61.                                                                         

[44] محمد الامين ولد أن ، المرجع السابق ، ص85.

الاسمبريد إلكترونيرسالة