JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->

الأخلاق و علاقتها بالعقل عند طه عبد الرحمان

خط المقالة

 تمهيد:

إن المتأمل لتشكل مفهوم العقل في فكر الفيلسوف طه عبد الرحمان يخرج بملاحظة بالغة الاهمية ، وهي ان المفكر سعى جاهدا في نحت هذا  المفهوم ضد أعماله الفلسفية الأولى انطلاقا من مسألتين هما مسألة اليقظة الدينية ، ثم مسألة التجديد في الفكر الاسلامي الذي أصبح ضرورة ملحة .

هاتين المسألتين السابقتين أصبحتا بمثابة أهداف للفيلسوف طه عبد الرحمان ، لا تتحقق إلا بعقلانية متجددة مبنية على أسس أخلاقية من جهة ومتصلة بالمناهج العقلية من جهة أخرى  وللوقوف على مسألة علاقة العقل بالأخلاق في فكر طه عبد الرحمان ارتأينا طرح الاشكالية التالية :

ما علاقة الأخلاق بالعقل عند طه عبد الرحمان ؟ وماهي معالم تجديد النظر في مفهوم العقل عنده ؟ وماهي مراتب العقل عند طه عبد الرحمان ؟

 

المبحث الأول : العقل الأخلاقي الإسلامي من منظور طه عبد الرحمن          يعتبر مفهوم العقل من جملة المفاهيم التي شغل بال العديد من الفلاسفة ومفكري العرب والمسلمين ، ومن أبرز الفلاسفة نجد طه عبد الرحمان الذي يصنف العقل لعدة مراتب حيث اقترح مفهوما له انطلاقا من نقده للعقل الغربي : فما هو هذا المفهوم ؟ وماهي مراتب العقل عنده ؟

1-مفهوم العقل في فلسفة طه عبد الرحمان :

في هذا الصدد نلمس ان نظرة طه عبد الرحمان لمفهوم العقل حالة جديدة . اذ أعاد تشكيل هذا المفهوم بطريقة لا تطابق التصور القديم  ، حيث يرى أن العقل ليس جوهرا قائما بذاته ، بل هو فعل من الافعال اي انه مرتبط بالقلب ، وما يفهم من هذا القول أن العقل عنده ليس ذلك العقل المجرد المرتبط بالأفعال بمعنى انه مرتبط بالممارسة فقط فالعقل هو عبارة عن فعل ادراكي داخلي يصدر عن قلب الانسان وان يكون مقترنا بالقصد[1] أي يعي ما يصل إليه من مدركات كما يعي الإناء ما يوضع فيه ، وعليه يكون العقل هو إدراك الإنسان للارتباط الموجود بين شيئين فأكثر ، اي العلاقة بينهما [2] .

وقد أكد طه عبد الرحمان في كتابه "سؤال العمل " ثمانية إشكاليات دخلت على مفهوم العقل وهي :

ü    إشكالية الترادف بين العقل والنطق .

ü    إشكالية تعريف العقل بالجوهر .

ü    إشكالية الفصل بين العقل والقلب .

ü    إشكالية الفصل بين العقل والخلق .

ü    إشكالية الفصل بين العقل والوحي .

ü    إشكالية الفصل بين العقل والايمان .

كل هذه الاشكاليات التي طرأت على مفهوم العقل أدت الى التغيير في مفهومه والسبب في ذلك كثرة الغلة في التجريد والخلو عن العمل ، لذلك حاول طه عبد الرحمان إعطاء تصور جديد للعقل يكون مفهومه مخالفا لما سبق ، وذلك عن طريق الرجوع الى المعنى العملي للمفهوم في اللسان العربي والرجوع الى معنى العقل الاصطلاحي العملي في النص الديني ، ولا يكون هذا إلا بتكسير طوق العقل من أجل طلب التأييد و التسديد لهذا العقل وذلك بالاستعانة بقوة ليست من جنس قوته لتحصيل العينة الالهية [3].

فتكسير طوق العقل لا يكون إلا على فعل العبودية والسجود ، وكما هو معلوم ان العبادة هي همزة وصل بين النظر والفعل لقوله تعالى :"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"[4].

-اذن المفهوم الجديد الذي صاغه طه عبد الرحمان يرتبط بالتصور الاخلاقي الاسلامي وليس على تصور يوناني ، وبهذا أراد تأسيس المفهوم الفعلي للعقل ويتضح ذلك من خلال أن :

1-أن العقل يدخل في باقي الأفعال الإنسانية ، فمثلا : المبصر يبصر وهو يعقل في بصره ، والسامع يسمع في سمعه والعامل يعمل وهو يعقل في عمله .

2-أن العقل قد يحسن و يقبح كما تحسن الافعال. [5]

وعليه فإن دواعي طه عبد الرحمان تتعدى المستوى النقدي للعقل الى المستوى البنائي والتأسيسي ، أي محاولة إعطاء مفهوم جديد للعقل والعقلانية ، إذ ينبغي أن يكون التجديد تجديد جذري للعقل الإسلامي .

2- عوائق إبداع العقل الإسلامي :

لن يتحقق طموح الإبداع في الفلسفة العربية إلا إذا أنصت الفيلسوف العربي الى دقات قلب مجاله التداولي الخاص ، فينشئ فلسفة متميزة و معبرة بصدق عن القضايا والإشكالات السائدة في حقل الثقافة العربية وحاملة للقيم والحقائق التي تختلج في وجدان وعقل الانسان العربي والمسلم ، وقد تصبح مهمة صعبة إن لم يع العقل الاسلامي حقيقة العوائق التي تواجهه التي تقلل من فاعليته وتصيبه بالعقم والركود ، ولهذا السبب نجد طه عبد الرحمان لم يقلل بعالمية الفلسفة ومن ثم يرفض فكرة الفضاء الفلسفي العالمي ومن  هذا يمكن أن نسأل:

- ماهي عوائق إبداع العقل الإسلامي ؟ وكيف يمكن تجاوزها لتأسيس فلسفة قومية خاصة ؟

يجيبنا طه عبد الرحمان بأن من عوائق ابداع العقل الاسلامي دعوى كونية الفلسفة ، تلك الكونية التي لا تعترف بأي طابع قومي للفلسفة والتي تهدف لإذابة الفروقات والخصوصيات بغية طرح نمط فلسفي واحد يمهد للهيمنة الاقتصادية والسياسية ، فإذا قيلا الفلسفة الكونية فالمقصود ( أن قضاياها ومصالحها تعم أقطار الارض جميعا ، بحيث تكون الكونية ذات صبغة جغرافية او سياسية نظرا لاقترانها بالنفوذ والسلطة وإن سلمنا بالاعتقاد بكونية الفلسفة في صورتها الكلية او السياسية اي ان الفلسفة عالمية فلابد من العمل كذلك على إثبات صبغتها القومية )[6].

- أما الاعتراضات العامة ، فقد انطلق طه عبد الرحمان من ارتباط الفلسفة بالسياقات التاريخية والاجتماعية كانت ولاتزال تخوض في اشكالات يمليها واقع معين ، يجتاز ظروف تاريخية واجتماعية مخصوصة ، وما دامت الفلسفة غير متعالية عن الواقع والتاريخ ، بل هي نفسها إفراز لواقع يحمل خصوصيات سوسيو ثقافية محددة ، من هنا كان لابد من الاقرار بقومية الفلسفة ، يقول طه عبد الرحمان:  " لابد ان تحمل فلسفة الامة الواحدة الخصوصية التاريخية والاجتماعية لهذه الامة كما تحمل فلسفة الفرد الواحد خصوصية ظرفه التاريخي ووضعه الاجتماعي "[7]

- كما أن الفلسفة هي مضمون مصاغ في قالب لغوي ، وهكذا فهي حتما متأثرة (مهما حاولت ان تتجرد) بالأساليب اللغوية والادبية للسان على كل أمة ، وهذا ما يفسر عسر الترجمة عادة من لغة الى لغة اخرى والاخلال بشرط تبليغ دلالة النص كما هي لغتها ، إذ يقول فيلسوفنا في كتابه : (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ):"معلوم ان اللغة المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي ولا تشكل لهذا القول بغير تأثره بمحله اللغوي ، ولما كانت الألسن التي وضع بها القول الفلسفي متعددة ، جاز أن تختلف المضامين الفلسفية باختلاف الألسن التي تنقلها "[8]

- ومن هنا يرى طه عبد الرحمان ان اللغة والبيان يؤثران تأثيرا كبيرا في المضمون الفلسفي الذي يجعل الفلسفة فلسفة قومية خالصة ، تسعى الى تحرير القول الفلسفي من التبعية والتقليد لإقامة فلسفة عربية تضاهي الفلسفات الاخرى وهذا من خلال ركيزتين هما : الهدم والبناء .

وللخروج من التقليد الاعمى يقدم لنا طه عبد الرحمان أول دليل لإثبات ميلاد فلسفة عربية إسلامية قومية لها مفاهيم خاصة بها هو انه اعترف بمبدأ الاختلاف في الفكر الفلسفي وأن لكل فلسفة واقعها الخاص بها حيث يقول " أن قيمة الاختلاف الفلسفي بين الاقوام يبني هذه الجماعة لا بواسطة تسلط فلسفة قوم واحد على الاقوام الاخرى وانما بواسطة مساهمة كل قوم بمنظور فلسفي خاص ينضاف الى غيره من المنظورات الاقوام الاخرى "[9]

3-نقد العقل الغربي عند طه عبد الرحمان :

إن محاولة طه عبد الرحمان في نقد العقل الغربي محاولة جريئة من نوعها ، سلك فيها مسلكا جديدا لم يسبق اليها أحد ،فلقد بنى نقده للعقل الغربي على منهج ابتكره ، مفاده ان أي عقلانية لابد أن تستوفي ثلاثة معايير : معيار الفاعلية ، معيار التقديم ، معيار التكامل . ولهذا فإن طه عبد الرحمان يرى أن العقل الغربي يخل إخلالا عظيما بهذه المعايير ، لذلك اعتبر مبدأ العقلانية او التجريد كما يسميها مبدأ مخالف لمبدأ الايمان بالرسالة الإسلامية بدليل أن الإنسان الغربي يجعل من العقل مبدأ مرجعي لإصدار أحكامه ، في الحين المسلم يتبع الوحي او الرسالة كمبدأ في حكمه أو تصرفاته إلى جانب .

- وفي هذا الصدد نجد طه عبد الرحمان يقول :"فخاصية هذه العقلانية أنها تستأثر بالإنسان من دون الوحي ، و بالتالي فهي تتنافى مع الرسالة الدينية والعقلانية بهذه الصورة أسميها (العقلانية المجددة ) بتجريديتها تتمثل في الاشتغال بالعقل الإنساني دون الاشتغال بالوحي الإلهي "[10]

ومن هذا تبين أن هوية الانسان تتمثل في هوية الاصل الأخلاقي لان الاخلاق هي التي تميزه عن الحيوان .

- أما بالنسبة للمشكل الثاني على مستوى العقل الغربي فيتمثل في (الدينانية)[11] أي العلمانية ، حيث يقول طه عبد الرحمان فيها :" فاهتمام الإنسان بالآخرة ليس خروجا عن الاهتمام بالدنيا ، بل اهتمامه بالآخرة وسيلة للرجوع الى الدنيا والاهتمام بها بأفضل ما يهتم بها الانسان لو أنه يدرك الاهتمام بالأخرة "[12] فمطلح العلمانية معناه أن الانسان يركز على الدنيا ويهمل الآخرة ، إضافة إلى هذا تصبح المعاني الدينية معاني علمانية تفضل الدين عن العقل وهذا ما رفضه طه عبد الرحمان جملة وتفصيلا .

- أما بالنسبة للمشكل الثالث المتمثل في الحداثة الغربية فقد وجه طه عبد الرحمان نقدا لا يختلف كثيرا عن النقد الذي قدمه عدنان علي رضا النحوي [13] وفي هذا يقول طه عبد الرحمان :"من أخطر الآثار في الواقع الاسلامي وذلك بما تسلل منها الى ساحة العمل الاسلامي تحت مختلف الرايات والشعارات حيث أصبحت الديمقراطية مطلبا إسلاميا والاشتراكية مطلب إسلاميا كذلك ، وأخيرا ظهر منها من يهون من أمر الحداثة ، ويدعو الى حداثة إسلامية "[14].

وهذا معناه أن الواقع الاسلامي تعرض لعدة اختلافات تلقاها من انتشار القومية والعلمانية والديمقراطية التي حملها العالم الغربي .

ومنه فإن هذه الحداثة حسب رأي طه عبد الرحمان بقدر ما بنت بقدر ما هدمت وخير دليل على ذلك هو التطور العلمي والتقني في جميع المجالات الذي يقابله العديد من المخاطر والآفات التي تسببت في العديد من الازمات على جميع الاصعدة ، وهذا ما دفع بطه عبد الرحمان الى نقد العقل الغربي والحداثة .

المبحث الثاني : عقلنة الاخلاق عند طه عبد الرحمان :

لقد عرف هذا القرن سيطرت الفكر الأداتي الذي يرى ان التقنية وحدها كافية لتحقيق التقدم ، فقام هذا الاتجاه بتحويل علاقتنا بالعمل وبالآخرين حيث أصبحت هذه العلاقة مادية أكثر مما هي انسانية والنتيجة المترتبة على ذلك موت العاطفة والتأمل وتلاشي الاخلاق ، مما تحتم على الفكر الاسلامي التصدي لهذا النوع من الممارسات لاسترجاع الطبيعة الاخلاقية الانسانية تكون مستمدة من أصول الشريعة الاسلامية .

1-النظريـــــــــــــــــــة الاخلاقيــــــــــــة الاسلاميــــــــــــــة :

يرى طه عبد الرحمان الفيلسوف المغربي المعاصر ، أن العقلانية الحديثة جعلت من العقل والعلم إلهين جديدين ، فالإيمان بالعقل وحده يعني ان العقل يصبح مرجعا تستند اليه المعايير المتغيرة من اجل ابراز التقدم [15].

والايمان بالعلم يعني ان العمل وحده قادر على جميع المسائل الشائكة ، يعني ان الحداثة الغربية بموجب هذا المنظور في مجال العلم والتقنية قد قطعت اي صلة بالأخلاق او الدين او بصفة عامة كل ما يأخذ طابعا روحيا او دينيا وفي سياق ذي صلة على ما تقدم يقول هايدغر[16] في تقييمه للتقدم العلمي التقني "إن الاستعمال الجيد للتقنية على انها وسيلة هو النقطة الجوهرية في هذه المحاولة لهذا نريد ان نتحكم في التقنية وتوجهها لصالح غايات روحية نريد ان تصبح سادة عليها ، إن ارادة السيادة هذه تصبح أكثر الحاحا كلما هددت التقنية أكثر بالانفلات من مراقبة الانسان "[17].

فالإسلام لا يفرق بي العقيدة والعلم والتقنية بل بالعكس من هذا يعمل على سد الثغرة ويوحد بينهما في وحدة واحدة ، وهذا ما يتطلب في تقديم الغاية الروحية على الغالية المادية ويقول طه عبد الرحمان :"إن كل تقدم مادي يتطلب تقدما روحيا يفوقه قوة او على الاقل يساويه حتى يحصل الانتفاع به "[18] .

ومن هذا فإن طه عبد الرحمان يرى ان الحضارة الغربية بنظامها العلمي والتقني لا يمكن ادراك مخاطرها إلا بالاستعانة والعودة الى الاسلام والعمل وفق مبادئه الأخلاقية ، وعدم العمل بمبدأ السيادة على الكون كما رأينا سابقا ويظهر هذا الامر جليا و واضحا مع الانواريين الذين عملوا على تحرير الاخلاق من سلطة  المعتقدات الدينية من خلال :

1- مبدأ التوجه الى الانسان : (يقضي هذا المبدأ بأن نترك التوجه في تصوراتنا وتصرفاتنا الى الله ونقتصر فيها على التوجه الى الانسان)[19] ، بمعنى ان الانسان قادر على اتخاذ زمام أموره بيده دون الاستعانة بالله ، وعليه فهذا المبدأ يدعو الى الانفصال عن الإله.

2- مبدأ التوسل بالعقل : (يقضي هذا المبدأ بأن نترك التوسل في أفكارنا وسلوكاتنا بالوحي ونقتصر فيها على التوسل بالعقل )[20] ، وذلك من خلال انهم يرون ان العقل بمنزلة السلطان الآمر والناهي الذي يأمر الانسان بإصدار أحكامه على الاشياء .

3- مبدأ التعلق بالدنيا : (يقضي هذا المبدأ بأن نترك التعلق بأعمالنا ومعاملاتنا بالآخرة وتقتصر فيها على التعلق بالدنيا )[21] ، يدعو الى الانفصال عن الآخرة .

وبناء على هذه المبادئ الثلاثة السابقة الذكر (إشتغل ارباب الحداثة الغربية بإنشاء أخلاقهم اللادينية البديلة عن الاخلاق الدينية )[22] ومن هنا أبعدوا الاخلاق عن الدين ونسبوها للا دين وحده .

من خلال ما سبق ذكره نلاحظ ان النظرية الاخلاقية الاسلامية كانت تسعى دائما الى اضفاء طابع ديني على العلوم يتناول غاياتها  في المقام الاول والاهداف الموجودة في البحث العلمي ثانيا وهذا ما من شأنه ان يجعل هذه العلوم سببا لازدهار الإنسان وصيانة الخلق ، وبهذا تكون الاخلاق الاسلامية أعمق من سايقتها لان الحركية الموجودة من قبل في الاديان إزدادت وتضاعفت بموجب تحميله لمكارم الأخلاق [23].

3-مـــــــراتب العقـــــــــــل عنـــد طــه عبـد الرحمـــــــــــــــان :

تتفاوت مراتب العقل عند طه عبد الرحمان بقدر ما ترتقي في التقرب الى الله ، وهذا ما يوضحه من خلال مؤلفه (العمل الديني وتجديد العقل ) حيث قسم خاصية العقل الى ثلاث مراتب أعلاها العقل المؤيد وأوسطها العقل المسدد وأدناها العقل المجرد ومن خلال هذا التقسيم نطرح الاشكال التالي:

-       مـــا مراتب العقل عند طه عبد الرحمان ؟

أ-العقل المجرد:

أسس طه عبد الرحمان مقدمة العقل المجرد على صورة فعلية فهو (عبارة عن الفعل الدي يطلع به صاحبه على وجه من وجوه شيء ما معتقدا في صدق هذا الفعل ومستندا في هذا التصديق الى دليل معين)[24] ، ابتعد في تعريفه للعقل عن التعريف اليوناني الذي يعتبره جوهرا قائما بالذات الانسانية مميزا لها عن الحيوان ، لذلك قال أن هناك قسمين للعقلانية :

القسم الاول : المتمثل في العقلانية المجردة من الاخلاق وهي التي يشترك فيها انسان مع البهيمة .

القسم الثاني : المتمثل في العقلانية المتسددة بالاخلاقية وهي التي يختص بها الانسان دون سواه [25] .

ومن خلال تعريفه للعقلانية ضبط ثلاثة معايير لها متمثلة في :

1- معيار الفاعلية : وفي هذا الاول أن الانسان يحقق ذاته بواسطة أفعال مجالها متسع ومتنوع بحيث يتجلى اتساع مجال أفعاله وتنوعها في مظاهر ثلاثة هي :

   *أولها كون انواع هذه الافعال ووسائلها متعددة .

   *ثانيا كون ظروفها المكانية والزمانية متقلبة .

   *ثالثا كون بواعثها ومقاصدها متفاوتة [26] .

2- معيار التقويم :يتمثل في التصحيح بمعنى مراجعة الاصول والرجوع الى الاصل ، فلو دام المرء على الممارسة الغير شرعية مادام واشتغل  بالاستفادة منها ولكن سرعان ما تنكشف حدودها وتصنيف آفاتها ، وهذا المعيار الذي تسند فيه الأفعال الى قيم معينة [27].

3-معيار التكامل : في هذا المعيار نجد ان الانسان هو عبارة عن اختلاف وتعدد قدراته النفسية و وظائفه العضوية ، إلا ان الانسان عبارة عن ذات واحدة تجمع فيها مظاهر القوة مع مظاهر الضعف لتحقيق الانسجام والتكامل فيما بينهم [28].

- وانطلاقا من هذه المعايير قام عبد الرحمان بنقد تعريفين إثنين للعقلانية وهما التعريف الارسطي والتعريف الديكاتري ، وحتى لا نعتقد ان هذا المصطلح أخذه طه عبد الرحمان من الفكر الغربي فقد أشار لنا في كتابه (العمل الديني وتجديد العقل) أنه قد استمده من عمق التراث الإسلامي ، حيث يعتقد أن أول من قال بهذا المصطلح (العامري) ويقتطف لنا نصا من كتابه (الاعلام بمناقب الاسلام) يقول فيه :"إن صناعة الإلهين ، فهي مرتفعة من أن يدرك شيء من أعراضها إلا بقوة العقل المجرد لبا ولب كل شيء خلاصته وهي صناعة مجردة للبحث عن الأسباب الأولية لحدوث الكائنات التالية[29] "  كما نجده بنص ورد عن ابن خلدون في كتاب (المقدمة) يقول فيه : "ان العلم المجرد عن الأصناف قليل الجدوى والنفع ،هذا علم أكثر النظار"[30] ويطلق عليه اسم (العقل النظري) .

من خلال التعريف السابق الذكر للعقل المجرد نلاحظ ان طه عبد الرحمان قدم لنا مصطلح العقل ليثبت ان العقل ليس جوهرا من جهة وليقوم بربط العقل بسلوك ما من السلوكات من جهة أخرى حتى يتمكن الانسان من الاطلاع عما حوله وما يجول في نفسه ، وقد تأثر طه عبد الرحمان بالآية الكريمة (سنريهم آياتنا في الافق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)[31]، ومن هذا يقدم لنا دليل على صحة موقفه يتمثل في المماثلة : حيث شبه العقل بالبصر والبصر ليس جوهرا مستقلا بنفسه وكذلك العقل فعل مرتبط لذات حقيقية والمتمثلة في القلب.

وقد اتخذ العقل معنى (فعل القلب) عند المسلمين صور مختلفة وهي :

1- صورة الربط : بمعنى ان العقل هو إدراك القلب للعلاقة بين معلومتين

2- صورة الكف :  بمعنى أن العقل يمنع صاحبه من الوقوع فيما يضر به نزعات وشهوات .

3- صورة الضبط : بمعنى ان العقل هو امساك القلب لما يصل اليه حتى لا ينفلت منه [32] ، وفي هذا يتبين لنا أن طه عبد الرحمان قدم لنا ثلاثة حدود عامة للعقل المجردة هي :

*الحدود المنطقية الثابتة للبرهان الرياضي .

*الحدود الواقعية التي يشهد عليها واقع العلوم في تكوينها وتطويرها

*الحدود الفلسفية التي حاول استنباطها من تصور الفلاسفة لطبيعة العقل المجرد [33].

هذه الحدود عملت على تشويه العقل والانقاص من قيمته لهذا عمل طه عبد الرحمان على استبداله بمفهوم العقل المسدد .

ب- العقــــــــــــل المســـــــــدد :

بما أن طه عبد الرحمان قد أقام حجته على قصور العقل المجرد في ادراك كل الحقائق ومعالجة كل الظواهر ، يجب تدارك هذا القصور مع العقل المسدد ، الذي أسسه على مقدمتين الاولى لزومه الصفة العملية والمقدمة الثانية هي دخول الافة عليه ، وعليه فالعقل المسدد هو الذي يسدد العمل بالشريعة الاسلامية اذ عرفه بأنه (عبارة عن الفعل الذي ينبغي به صاحبه جلب منفعة او دفع مضرة ، متوسلا في ذلك بإقامة الاعمال التي عرضها الشرع)[34]

فالفعل هنا خلاف ما وجدناه مع العقل المجرد فهو مجرد ادراك للأشياء وإقامة الدليل عليها ، أما فعل العقل المسدد فهو اقامة العمل الشرعي طلبا للمنفعة ودفعا للمضرة بشروط ثلاثة هي:

1-موافقة الشرع : ان العمل الذي يخالف الشرع قصدا أو الذي لا يبالي صاحبه سواء أخالف أم لم يخالفه ، لا يمكن أن يقع التسديد وان يصح أن يقع به التوجيه إلا ان التوجيه غير التسديد ، فليس كل عمل منوط بالتوجيه عملا منوطا بالتسديد ، يجب أن يكون العمل موافقا مع أحكام الشرع الاسلامي لإتباع أوامر الله غز وجل والابتعاد عن نواهيه .

2-إجتلاب المنفعة : إن المنفعة التي تنتج عن العمل الشرعي الا ان العمل الغير شرعي واعة تحدث لامحالة ولكن على المرء اجتنابها ، يقول "ان المنفعة الناتجة عن العمل الشرعي غير المنفعة فهذه الاخيرة واقعة لا محالة في النقائص ولو تحرى عليها فيها المرء ما تحرى واتخذ من المثل غير الشرعية ما اتخذ "[35]

3-الدخول في الاشتغال : وهو قوام العقل المسدد في مقال النظر في العقل المجرد اي الاستغراق في العمل ، وإتيانه على وقت مقتضى الحكمة منه وعلى وفق ما يؤول اليه في المستقبل ،العبرة ليست الأفكار المجردة وانما بالنتائج العلمية التي تلازم هذا الاشتغال .

وعليه لا يتحقق اجتلاب المنفعة إلا بالابتعاد عن نقائص ثلاث لا ينبغي ان يقع فيها العمل الشرعي ، ولا محالة واقع في غيره وهي (الصفة المادية ، الصفة السطحية ، الصفة الذاتية)[36]

- الصفة المادية : محدودة بقيمة المصلحة لذلك لا يرقى العامل بغير شرع الله بقيمة مستوى العامل بها ذلك ان العمل الشرعي يوجه الانتفاع المادي ويلبسه اللباس المعنوي ولا يتحقق ذلك في العمل غير الشرعي .

- الصفة السطحية : التي تطبع العمل غير الشرعي فتأتيه من محدودية وسائله وغايته العاجلة ، بينما العمل الشرعي يمد صاحبه بالسداد و يفتح له آفاقا اعتبارية بقدر عمله لذلك لا ينفع نفي الصفة الذاتية عن العمل غير الشرعي لأنها نهايته وان بدا للأخرين خلاف ذلك أما العمل الشرعي فيخص صاحبه أهوائه ورغباته فيما يطلبه من خاص المنافع وعامها لأن غايته مرضاة الله لا مرضاة نفسه ومصلحته .

إن كانت هذه الصفات التي لا يمكن أن يتصف بها العمل الشرعي ولا محالة واقع فيها العمل غير الشرعي فإن ممارسة العمل الشرعي أو الدخول في الاشتغال ينبغي ان يلتزم بأربعة وظائف وهي : التشخيص ، التشريف ، التوسيع ،التصحيح. [37]

- يحاول من خلال وظيفة التشخيص أن يبين أن أهمية العمل الشرعي في كونه ملموسا ظاهرا نفعه ملحوظا أثره على الصالح العام لأن العبرة بالثمار العملية وليست بالأفكار .

- أما التشريف فلا يحصل إلا اذا اقترن العلم بالعمل ولا يمكن أن يحدث العكس كما هو الحال مع العقل المجرد .

- وتأتي وظيفة التوسيع لتبين الأثر الذي يتركه الاشتغال بالعمل الشرعي على صاحبه إذ أن العبادة توسع مداركه وتعمل على تهذيب سلوكه ، فيتحرر من سلطان العادات والاعتقادات الفاسدة في الوقت الذي تعمل وظيفة التصحيح على تصحيح الانحراف الحاصل في عقله نتيجة النظر التجريدي مادام قائما بالاشتغال بالعمل الشرعي فينفتح له باب الفهم والتيقظ والزيادة في العمل .

خلاصة القول في العقل المسدد أنه مسدد بقيم العمل الشرعي وبقدر المواظبة على الاشتغال بها تجني ثمارها في اتساع أفق الفهم استنارة البصيرة خلاف العقل المجرد المقيد بتنظيراته. 

ج- العقل المؤيد :

أسس طه عبد الرحمان العقل المؤيد أيضا على مقدمتين الألى تناولت تعريفه والثانية أسس لكماله وعليه فالعقل المؤيد : هو عبارة عن الفعل الذي يطلب صاحبه معرفة أعيان الأشياء بطريق النزول في مراتب الاشتغال الشرعي مؤديا النوافل زيادة على اقامة الفرائض على الوجه الأكمل [38]  فمعرفة أعيان الأشياء هو ما جعله طه صفة للعقل المؤيد وهي : العينة : يقصد بها أنها موضوع العقل المؤيد هو أغنى وأشرف مواضيع المعرفة الممكنة متمثلة في الصفات والافعال والذوات ، فإذا كان العقل المجرد يتعرف على الصفات والعقل المسدد يتعرف على الأفعال فإن العقل المؤيد يقصد معرفة الذوات ولا سبيل لمعرفة الذات إلا بالجمع بين النظر والعمل والتجربة التي سماها طه عبد الرحمان  بالملابسة أي اتباع طريق النظر العملي الحي والملابسة درجات هي المزاولة التي تغلب فيها الظاهرة للجوارح ، لتنعكس آثارها على الجوانح وحينها سيكون المؤيد قد ارتقى للمخالطة لما تركته هذه الأعمال من أثر في نفسه كالأنس والسكينة ، ثم تأتي درجة المباطنة وفيها يظهر آثار الأعمال الباطنة للجوانح فتنعكس على الأعمال الظاهرة للجوارح .

وعليه فهو يرى ان الملابسة مباطنة تحقق 'للمؤيد' منفعتين هما الطمأنينة والمحبة فتمنحه الطمأنينة قوة التحمل والطاقة في السير وتزيده يقينا بمحصوله وأما المحبة في طريقة للمعرفة العينية وهي الاشتغال بالمحبوب عمن سواه [39] ، وبهذا يسلم العقل المؤيد من كل الآفات التي دخلت على العقل المسدد لأنه اشتغال غير مأمون العواقب ذلك أنه معرض للاغترار .

- والشرط الثاني في تحقيق العقل المؤيد العينية هي صفة العبدية التي لا تتحقق إلا بالتحرر الكامل من كل تبعية ، فيكون التحرر من قصد الصفات 'وهذا ما وقع فيه العقل المجرد ' هو ترك التبعية للشيء او ترك التبعية الشيئية وهو ما سماه طه عبد الرحمان بالتخلص ، ويكون بالتحرر من قصد الأفعال 'وهذا ما التزم  به العقل المسدد' هو ترك التبعية العلمية ، وسماه الاخلاص ، مهدت لتحقيق شرط ثابت وهو بالذات التبعية المحققة للبعدية واصطلح عليه تسمية الخلاص .

يظهر ان العقل المؤيد عند طه عبد الرحمان لا يخرج من دائرة الدين بداية ومنطلقا ، ليتخذ من أسباب الطاعة في العبادة والمعاملة كمبدأين عمليين يطبقان من خلال وسيلة الاشتغال بالله والتعامل في الله لابتغاء رضاه ، فبفضل العمل تأخذ آفاق العقل في الانفتاح والتوسع والتعمق .

وليس للشخص أن يختار هذا العمل بالتشهي بل ينبغي أن يتوارد العقل والنقل على صحة فائدة العمل المختار في الوصول الى هذه الغاية ولا عمل أقرب غير 'العمل الشرعي' فهو أنفع الاعمال في جلاء الحدود وأنجع الوسائل في رفع القيود [40].


[1] طه عبد الرحمان :سؤال الاخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ، ط3 المغرب ، المركز الثقافي العربي، ص 63 .

[2] طه عبد الرحمان : سؤال العمل . بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم ، ط1 . المغرب 2012 . ص 63

[3]خالد حاجي  : من مضايق الحداثة الى فضاء الابداع الاسلامي والعربي ، ط1 ،المغرب ، المركز الثقافي العربي ظن2005 ، ص 167 .

[4] سورة الذاريات : الاية 56 .

[5] طه عبد الرحمان : سؤال العمل ، مصدر سابق ، ص 59.

[6] طه عبد الرحمان : الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ،ط1،الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي 2008، ص 52

[7] المصدر نفسه ، ص35 .

[8] طه عبد الرحمان : الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ، المصدر السابق ، ص53

[9] طه عبد الرحمان : الحوار أفقا للفكر .ط1، بيروت ، الشبكة العربية للأبحاث والنشر .2013 ، ص 47

[10] طه عبد الرحمان : سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ، المصدر السابق ،ص14 و ص 15

[11] الدينانية : مبدأ يقضي بالتعلق بالدنيا والاهتمام بها وحدها دون الاخرة .

[12] عدنان علي رضا النحوي : تقديم نظرية الحداثة ،ط1 ، العراية ، دار النحوي للنشر والتوزيع 1992 ، ص 26

[13] عدنان علي رضا النحوي : (1928- 2015) أديب وناقد سعودي وداعية إسلامي من أصل فلسطيني من مؤلفاته : في العمل الاسلامي ونظريات في التغيير .

[14] عدنان علي رضا النحوي : تقديم نظرية الحداثة ،ط 1 العراية ، دار النحويللنشر والتوزيع 1992 ، ص 26 .

[15] طه عبد الرحمان : سؤال الاخلاق .المصدر السابق ن ص 59.

[16] هايدغر : فيلسوف ألماني مؤسس الوجودية (1889-1976) من أهم مؤلفاته :الوجود والزمان .

[17] مارتن هايدغر : التقنية والحقيقة والوجود : تر محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح ، (د ط ) بيروت ، المركز الثقافي العربي 1995. ص 45.

[18] طه عبد الرحمان : روح الحداثة المدخل لتأسيس الحداثة الاسلامية ، ط1 ، الدار البيضاء المركز الثقافي العربي ،2006، ص 233.

[19] المصدر نفسه ، ص 100 .

[20] المصدر نفسه ، ص 101 .

[21] المصدر نفسه ، ص 101.

[22] طه عبد الرحمان : روح الحداثة المدخل لتأسيس الحداثة الاسلامية ، المصدر السابق 101 .

[23] حاجي خالد : من مضايق الحداثة الى فضاء الابداع الاسلامي العربي ، ط1 ،الدار البيضاء ، المركز الثقافي العربي 2005 ،ص 125.

[24] طه عبد الرحمان : العمل الديني وتجديد العقل ، المصدر السابق ص 17.

[25] طه عبد الرحمان : سؤال الاخلاق ، المصدر نفسه ص 14.

[26] طه عبد الرحمان : سؤال الاخلاق (مساهمة النقد الاخلاقي للحداثة الغربية) ،مصدر سابق ،ص62.

[27] طه عبد الرحمان : العمل الديني وتجديد العقل ، مصدر سابق ، ص 62.

[28] طه عبد الرحمان : سؤال الاخلاق ، المصدر السابق ص 63.

[29]  طه عبد الرحمان : العمل االديني وتجديد العقل ، ص 17 .

[30] المصدر نفسه ، الصفحة نفسها .

[31] سورة فصلت ، الاية 52

[32] طه عبد الرحمان : العمل الديني وتجديد العقل ، مصدر سابق ص 19

[33] المصدر نفسه ، ص 40

[34] طه عبد الرحمان : العمل الديني وتجديد العقل ، مصدر سابق، ص 44

[35] طه عبد الرحمان : العمل الديني وتجديد العقل ، المصدر السابق ، ص 60

[36] نفسه ، ص 64.

[37] نفسه، ص 65.

[38] طه عبد الرحمان : العمل الديني وتجديد العقل ، المصدر السابق ،ص 121

[39] المصدر نفسه ، ص 126

[40] طه عبد الرحمان :  العمل الديني وتجديد العقل ، ص 129


الاسمبريد إلكترونيرسالة