الاطار العام للفكر السياسي
المبحث الاول
الفكر السياسي المسيحي في العصور الوسطى
لمحة تاريخية :
بدأت الديانة المسيحية في الانتشار في اوروبا في الوقت
الذي كانت فيه الامبراطورية الرومانية في
اوج عظمتها , وقد بدأ تأثير هذه الديانة في النواحي الدينية والاجتماعية فقط , ولم
تعر اهتماماً للنواحي , وقد كانت بداية انتشار المسيحية بين صفوف الطبقات الدنيا
في المجتمع التي آمنت بها كنتيجة منطقية لمناداة هذه الديانة بمبدأ المساواة بين
كل الناس , ولكن مع مرور الوقت وحين بدأت الإمبراطورية بالضعف والانهيار تدريجياً
اخذت المسيحية في الانتشار بين كافة الطبقات , ولكن حتى تلك اللحظات بقي تأثير
الديانة المسيحية بعيداً عن الحياة السياسية نتيجة لإيمان آباء الكنيسة الاوائل
بضرورة اطاعة الحاكم تنفيذاً لوصية السيد المسيح عليه السلام (( دع ما لقيصر لقيصر
وما لله لله )) .
وبقي الوضع كذلك الى ان اعترف الامبراطور قسطنطين
بالمسيحية كديانة رسمية للامبراطورية , حيث بدأت هذه الديانة بالازدهار واصبحت
الديانة الوحيدة المسموح بها وتخلت الدولة عن نظرية حرية العقيدة التي كانت سائدة
في بداية ظهور الكنيسة مع ضعف الامبراطورية وتناقصت سلطة الاباطرة بحيث اصبحت سلطة
الكنيسة موازية لسلطة الامبراطور , واتجه دور الكنيسة نحو المحافظة على الوحدة
المحافظة على الوحدة والنظام على الوحدة والنظام ومحاربة الفوضى داخل الامبراطورية
التي تسير في طريق الانهيار . وتزامن هذا الدور البارز للكنيسة مع ظهور نظام البابوية
في الامبراطورية الرومانية حين عين اسقف روما في منصب مستشار للامبراطورية واصبحت
له سلطة على رجال الدين في الولايات شبيهة شبيه بسلطة الامبراطور على حكام
الولايات , واقتبست كنيسة روما النظام الروماني في تنظيم علاقتها بالكنائس الفرعية
الاخرى . ويؤرخ بروز النفوذ البابوي بتوليه القديس جريجوري الاول سنة 590-604م
وتزايد دور البابوات حيث نقلت قيادة الامبراطورية الى القسطنطينية واصبح البابا في
روما يتمتع بسلطات دينية وسياسية واسعة .
مما سبق نستخلص بان فترة العصور الوسطى في اوروبا قد
تميزت بالصراع الحاد بين الكنيسة والدولة ممثلة بالإمبراطورية ومحاولة كل منهما مد
نفوذها الى مجال الاخرى للسيطرة عليها واحتوائها , واستمر هذا الصراع لفترة طويلة
الى ان بدأت الدولة القومية بالظهور . وبدأ دور الكنيسة بالتراجع مرة اخرى وقد ظهر
على طول هذه الفترة مجموعة من الكتاب والمفكرين والقديسين نذكر منهم أمبروز ,
واغسطين , وجريجوري , الى ان جاء توماس الاكويني في نهاية هذه الفترة .
ازدواج السلطة (( ونظرية السيفين )) :
ظهرت المسيحية كحركة دينية لها نظامها المستقل عن الدولة
, وكانت هي المسؤولة عن النواحي الروحية وتسعى لتخليص الانسان من الخطيئة , وكانت
تنظر للدولة كمؤسسة مستقلة تستمد سلطتها من الله مما يستوجب خضوع الكنيسة لسلطتها
, ومن الملاحظ بان المفكرين خلال هذه الفترة لم يهتموا بالسياسة كعلم مستقل وبقي
يدرس ضمن الدروس الدينية من خلال محاولة آباء الكنيسة توضيح العلاقة بين السلطة
الدينية والسلطة الدنيوية , ولكن مع تعاظم دور الكنيسة كما اسلفنا من قبل وتمتعها
بسلطة منافسة لسلطة الامبراطور طرحت الكنيسة فكرة (( الولاء المزدوج )) والتي تدور
حول وجوب خضوع المسيحي لنوع من الولاء المزدوج انطلاقاً من ازدواج طبيعة الانسان
يتكون من روح وجسد . والروح تتوجه بالولاء نحو خالقها, والذي تظهر سلطته في الارض
من خلال الكنيسة , اما الجسد فيتوجه بولائه الى السلطة الدنيوية ممثلة في الحكومة
الامبراطورية . وانطلاقاً من هذه الفكرة اصبح الناس يجدون انفسهم اما خيارين اما
ان يطيعوا الله وسلطته ممثلة في الكنيسة واما ان يطيعوا الحاكم او الامبراطور .
وظهرت الافكار والمفكرين للدفاع عن كل جهة وتبلورت هذه الافكار فيما بعد الى هيئات
نظامية وحصل توزيع للسلطة داخل المجتمع وخرجت الى الوجود (( نظرية السيفين او
ازدواج السلطة )) على اساس وجود نوعين من الوظائف في المجتمع .
1- وظائف خاصة بالقيم الروحية والخلقية وتتولاها الكنيسة
وتراقبها .
2- وظائف تتعلق بالمحافظة على الامن والنظام وتحقيق
العدالة وتتولاها الحكومة.
القديس اوغسطين
حياته :
ولد اوروليوس اوغسطين سنة 345م و في شمال افريقيا في
الوقت الذي كانت فيه الامبراطورية الرومانية تواجه مجموعة من الضغوط والهجمات
الخارجية , وقد كان اوغسطين في بداية عهده وثنياً و ولكنه اعتنق الديانة المسيحية
فيما بعد وعين اسقفاً في هيبو شمال افريقيا , وقد تأثر بأفكار استاذه القديس
امبروز الى حد بعيد .
وقدم القديس اوغسطين معظم افكاره في مجلده الضخم الذي
اسماه (0 مدينة الله )) City of God نظرته للدولة :
عني القديس اوغسطين ببحث اساليب الحياة الاجتماعية ولم
يعر اهتماماً كافياً للناحية التنظيمية , وذلك ناتج عن كونه قديساً مسيحياً تأثر
بالديانة المسيحية التي لم تهتم بالحياة السياسية القدر الكافي وبصورة مستقلة .
آمن القديس اوغسطين بنظرية الولاء المزدوج التي سبق
شرحها والتي تقول بتواجد طبيعتين للانسان من حيث كونه جسد وروح . مما ترتب عليه ان
يكون مواطناً لدولتين في نفس الوقت و دولة الارض والتي تتمثل في الدوافع الدنيوية
وتستهدف التسلط والتملك . ودولة الله وهي التي تستخدم السلام والخلاص الروحي , وقد
حاول القديس اوغسطين ان يقيم توازناً ما بين هاتين الدولتين وان يميز ما هو روحي
وديني وماهو جسدي وسياسي. كما حاول تفسير التاريخ البشري على انه وليد الصراع ما
بين دولة الله او دولة المسيح ممثلة في الكنيسة والتي تسيطر عليها قوى الخير
المستمدة من الروح و ودولة الارض او الشيطان – كما اسماها –القائمة على الشر
الناتج عن غرائز الانسان الجسدية , وقال بأن هذا الصراع ما بين المدينتين سوف
يستمر الى يوم القيامة و ومن الملاحظ بانه على الرغم من مهاجمة القديس اوغسطين
للدولة الزمنية القائمة فانه لم يرفضها واعترف بفضلها في تدعيم المسيحية و
واعتبرها شر لابد منه .
نظام الحكم
اعتقد القديس اوغسطين بان الدولة الحقة هي التي تقوم على
المسيحية , وقال بانه اذا ما اعتنقت الدولة الديانة المسيحية فان الكنيسة ستكون هي
الحاكمة وتكون الدولة حينئذ دولة وكنيسة في نفس الوقت وهي القادرة على تحقيق
العدالة .
وقد تبنى القديس اوغسطين فكرة وحدة الامم المسيحية (( Christian Commonwealth )) من خلال
قيام امبراطورية مسيحية عالمية يسودها العدل والسلام .
القديس توماس الاكويني :
حياته :
عاش القديس توماس الاكويني ما بين سنة 1225-1274 م , اي
في نهاية العصور الوسطى , ويعتبر القديس توماس الاكويني من اشهر الفلاسفة
السياسيين في العصور الوسطى , وقد حاول الجمع بين النظرية السياسية القديمة مثل
نظريات ارسطو وشيشرون وبين التيارات المسيحية الرومانية التي تستمد اصولها مما جاء
في الانجيل وكتابات القديسين الاوائل.
نظرته للدولة ونظام الحكم :
يرى القديس توماس الاكويني بان النظام الطبيعي مرتب بشكل
تصاعدي يمتد في درجات تبدأ من الاله في القمة ويتدرج الى اسفل القاعدة التي تكون
ادنى المخلوقات , وان كل كائن في هذا النظام يعمل حسب طبيعته , وانه من الطبيعي ان
يسيطر الاعلى على الادنى وان للانسان قيمته لانه يتميز بالعقل والروح , وقد آمن
بان الانسان اجتماعي بطبعه تلك الفكرة التي نادى بها ارسطو – وقال بان هذه الفكرة
بالاضافة الى فكرة تفوق بعض الافراد في المعرفة والحق هما الاساس في قيام الحكومة
والتي تنبثق عن الجماعة باعتبارها الوسيلة الخاصة لرعاية الصالح العام , وان مهمة
الدولة تعتبر شرعية من ناحية الاحتياجات البشرية , ولكنها يجب الا تقصر على ذلك
ويجب ان تمتد لتشمل ارضاء الله وستكون هذه المهمة مهمة رجال الكنيسة في المقام
الاول.
وقال بأن الهدف الاخلاقي للحكومة المتمثل في اسعاد الناس
وتحقيق السلام وحفظ النظام يتوجب ان تكون السلطة محدودة , وان الحكم امانة في عنق
الجماعة والحاكم معذور في كل ما يفعله لانه يستمد سلطته من الله ويساهم في الخير
العام.
ولذلك فهو يدعو الى احتمال الحاكم المستبد ويرفض الثورة
عليه لان ذلك يسبب الفوضى في المجتمع .
نظرته للقانون :
اكد توماس الاكويني على مبدأ سيادة القانون وقدسيته وان
سلطة القانون اصلية وكامنة فيه وهي ليست من صنع الانسان , وحاول اثبات العلاقة بين
القانون السماوي والانساني , والقانون في رأيه جزء لا يتجزأ من نظام الحكم الالهي
الذي يسيطر على كل سيء في السماء والارض ,
ولذلك فان القانون هو الذي يميز
الحكومة الصالحة عن الحكومة الفاسدة وان مخالفة احكام القانون ليست اعتداء على
حقوق الافراد فقط انما اعتداء على النظام الالهي المدبر للكون , وقد قسم القوانين
الى اربعة قوانين احدهما انساني هو القانون الوضعي وثلاثة اخرى لا يتدخل الانسان
فيها وهي :
1- القانون الازلي
2- القانون الطبيعي
3- القانون الالهي
طبيعة الفكر السياسي المسيحي خلال العصور الوسطى وخصائصه:
في
الغالب لم يكن الفكر السياسي في العصور الوسطى يقوم على أسس علمية, ولم يعرف الفكر
السياسي خلال هذه العصور التحليل العلمي لظاهرة السلطة الا نادرا في بعض الآثار المتفرقة
لكل من القديس أوغسطين او توماس الاكويني أو غيرهم... وعلى العكس من ذلك كان الفكر
السياسي خلال هذه الفترة يدور حول معتقدات جامدة مستمدة من الديانة المسيحية ويقوم
على فكر رجال الدين غير القابل للنقد بعيدا عن الخضوع للمنطق القائم على المشاهدة والاستنباط
والتجربة والبحث.
وتركزت
الأفكار السياسية خلال هذه الفترة حول توضيح العلاقة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية
واتجهت نحو تبرير سيطرة الكنيسة وسيادة البابا الروحية المستمدة من وحده الكنيسة على
السلطة الزمنية وضرورة خضوع السلطة الدنيوية والملوك لها لتنشأ امبراطورية مسيحية تسيطر
على أوربا جميعها. وقد تبلورت هذه الفكرة فيما بعد على يد دانتي الإيطالي من خلال دعوته
لقيام حكومة عالمية.
وأخيرا
يمكن تلخيص خصائص الفكر المسيحي فيما يلي:
1- أنه يعمل على
تحقيق التكامل بين العقل والايمان, ويحاول التعبير بصورة حقيقة عن المعتقدات التي يؤمن
بها تطبيقا للعبارة المشهورة أؤمن لأتعقل.
2- ان الفكر السياسي
خلال هذه الفترة كان محدود المشاكل التي شغل بها وهي تتعلق بعلاقة الانسان بالخالق
في المقام الأول واعتبرت المسائل الأخرى ثانوية.
3- الايمان بوحده
الفكر والانسان وعدم إمكانية التفريق بين أجزاء العقل البشري فالفيلسوف المسيحي تكون
فلسفته مسيحية وأن الشخص مرتبط بالفكرة والفكرة تتأثر بالشخص الذي اتى بها ولهذا فانه
يجب ان يكون للفكر المسيحي طابعه المميز.
المبحث الثاني: السلطة السياسية ( الحكومة )
لا يمكن الحديث عن تحقق مفهوم الدولة بمجرد توفر الشعب
والاقليم بل لا بد من وجود سلطة عليا , تمارس سلطتها على الافراد الخاضعين لها .
وبخلاف ذلك تكون امام حالة من الفوضى وعدم الاستقرار . لهذا كانت الدولة ومنذ
ظهورها مقترنة بوجود سلطة عليا وهذه السلطة (( وكما ذكر البروفسور مارسيل برليوت M.Perlot ) , ليست
عنصراً من عناصر تشكل الدولة , فحسب بل عامل توحيد دائم للمجتمع السياسي . والناس
لا يختارون عادة , دولتهم , لقد ولدوا وعاشوا معها , وماتوا ويموت احياناً من
اجلها .. واذا كان لديهم من خيار , فسوف يختارون دولة من هذه الدول . وعندما يفقد
شخص ما ولأسباب مختلفة , انتماء الى دولة ما , فانه سيقع تحت رحمة الدولة الاخرى
)) . لهذا فان اهمية وجود سلطة سياسية , لا تقتصر على كونها ركناً اساسياً لقيام
الدولة من الناحية النظرية بل يتعدى ذلك الى ضرورتها في قيادة المجتمع , وتسير شؤونه
في كافة المجالات . فالسلطة السياسية ليست هي في الواقع , السلطة العليا التي يجب
ان تهيمن على بقية القوى , فحسب بل ان تمتلك حصرياً مقومات القيادة لكي تأمر فتطاع
, ومن هذه المقومات امتلاك وسائل القوة المادية , وبدونها لا وجود للدولة حسب وجهة
نظر الفقيه الالماني اهرنك ( I hering ) .
-
وليس هناك شك ان مفهوم السلطة السياسية , اخذاً ابعاد
مختلفة خلال المراحل التاريخية لنشأة الدولة ... فالملك في العصور الوسطى , كان
يمارس السلطة , التي تنتقل اليه بواسطة الوراثة , وكأنها سلطته يدل ذلك على . قول
لويس الرابع عشر قولته الشهيرة ( النا الدولة ) ( L . Etat c.est moi ) وتغيير مفهوم السلطة بعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789 م . فأخذ
الحاكم يمارس السلطة باسم الدولة او باسم الامة او الشعب , وترتب نتيجة لذلك فصل
فكرة السلطة عن شخص الحاكم وبالتالي انتقالها من حاكم الى آخر بموجب قواعد منظمة
على النحو الذي اضفى على السلطة صفة مؤسسة قائمة بذاتها ومستمرة ومتميزة عن شخص
الحاكم . الذي هو مجرد ممارس لها.
وبظرة تحليلية يمكننا اجمال
السمات الاساسية للسياسة او السلطة العامة بما يلي:
1- سلطة عليا واصلية تهيمن
على السلطات الاخرى داخل الدولة وذات اختصاص عام وحيادية , فوصول حزب معين الى
السلطة مثلاً لا يرتب في مواجهة الجميع وللصالح العام .
2- ينبغي ان تكون في صيغة مؤسسة اي مجردة عن شخص الحاكم , فالاخير
ليس هو صاحب السلطة السياسية وانما الدولة ( المشكلة من الحاكم والمحكومين ) . اما
الحاكم فهو مجرد ممارس لهذه السلطة .
3- لا تكتسب السلطة
السياسية مفهومها الحديث , لمجرد امتلاكها وسائل القوة المادية لبسط سلطانهاعلى
جميع افراد المجتمع وانما ان يترن ذلك برضاهم بها .
4- انها سلطة مركزية وتملك
حق السيادة ... فالسسلطة والسيادة , لفظان مترادفان في الاستعمال عندما يجري
الحديث عن سلطة او سيادة الدولة .
وبعد اكتمال توافر الاركان
الثلاثة , الشعب والاقليم وسلطة سياسية عليا ( هيئة حاكمة ) عند ذاك نشهد نشوء
الدولة ولا يهم الشكل السياسي الذي تتخذه هذه الهيئة الحاكمة في الدولة , ما دامت
تتمتع بالسيادة التي تمكنها من فرض سلطانها على الاقليم وعلى الاشخاص الموجودين
فيه , وتعكس في ذات الوقت , ارادة الدولة في التعامل مع الدول الاخرى في الخارج عن
طريق تبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي وابرام المعاهدات والاشتراك في المنظمات
الدولية .
المبحث الثالث: الاعتراف بالدولة
الاعتراف بالدولة هو التسليم من جانب الدول القائمة
بوجود هذه الدولة وقبولها كعضو في الجماعة الدولية . والاعتراف اجراء مستقل عن
نشأة الدولة , فالدولة تنشأ باستكمال عناصرها الثلاثة انفة الذكر . واذا ما نشأت
تثبت لها السيادة على اقليمها وعلى رعاياها دون نزاع , لكنها لا تتمكن من ممارسة
هذه السيادة في الخارج ومباشرة حقوقها قبل الجماهة الدولية , الا اذا اعترفت هذه
الجماعة بوجودها .
وقد اختلف فقهاء
القانون الدولي في تكييف الاعتراف بالدولة الجديدة والآثر الذي يترتب عليه . فريق
منهم يرى ان للاعتراف صفة انشائية فهو الذي يجعل الدولة الجديدة شخصاً دولياً ,
بدونه لا تستطيع الدولة ان تتمتع بالحقوق التي يقررها القانون الدولي العام للدول
الاعضاء في الجماعة الدولية ولا تأخذ مكاناً داخل هذه الجماعة , وفريق آخر , وهو
الاغلبية يرى بححق ان الاعتراف بالدولة ما هو الا إقرار من الدول بالامر الواقع ,
فالدولة الجديدة تصبح شخصاً دولياً له ما للدول الاخرى من حقوق بمجرد اكتمال
عناصرها , وليس الاعتراف الذي يكسبها تلك الشخصية وهذه الحقوق.
والامتناع عن
الاعتراف بالدول الجديدة , لا يحول دون تمتع هذه الدولة بشخصيتها الدولية ,
وبالحقوق التي تؤهلها هذه الشخصية , وغاية
الامر , انه قد يعوق ممارستها لسيادتها في الخارج , ولا يسمح لها بالدخول في
علاقات سياسية مع الدول التي لم تعترف بها , ومن الطبيعي ان يكون للاعتراف ذي
الصفة الاقرارية لا الانشائية اثر رجعي , اي انه يرجع الى التاريخ الذي ظهرت فيه
الدولة الجديدة لافعل كدولة مستقلة .
المبحث الرابع: الفكر السياسي المعاصر
ترتبط الأفكار
السياسية التي ظهرت في القرنين الماضيين بما نتج عن الثورة الصناعية من آثار اقتصادية
واجتماعية وسياسية, اذ تبلورت خلال هذه الفترة مجموعة من المتغيرات التي اثرت على مسار
الفكر السياسي واحدثت تبدلات جوهرية في الحياة العامة وأدت هذه التغيرات الى ظهور نوع
من الانقسام الاجتماعي يهدد حياة وأمن هذه المجتمعات. وقد أدى هذا الانقسام الاجتماعي
الا انقسام في الفكر, فظهر الخلاف بين دعاة المبدأ الفردي الرأسمالي المدافعين عن الحرية
الفردية وبين المفكرين الاشتراكيين الذين يدافعون عن حقوق العمال والطبقات الفقيرة
وفي مواجهة هذه الأفكار ظهرت النظرية الشمولية في كل من المانيا وإيطاليا لتخلق وضعاً
جديداً يتحدى هذه الأفكار.
وفيما يلي
سنحاول استعراض اهم التطورات التي اصابت الفكر السياسي خلال هذه المرحلة مولين الاهتمام
نحو تحليل مضمون هذه الأفكار التي تبلورت كما يظهر من متابعتها الى نظريات متكاملة
بغض النظر عن مقدميها وسيكون هناك إشارة الى اهم رواد هذه النظريات بصورة موجزة.
النظرية الرأسمالية ( الفردية)
تعود بدايات
ظهور هذه النظرية الى المدرسة الطبيعية Physicorats التي سادت افكارها فرنسا في القرن الثامن عشر والتي تقوم على فكرة القانون الطبيعي,
وان للإنسان حقوقاً طبيعية مقدسة, وان واجب الدولة اكتشاف هذه الحقوق والمحافظة عليها,
ورافق ظهور المدرسة الطبيعية في فرنسا آدم سمث في بريطانيا الذي دعى في كتابه ثورة
الأمم الصادر سنة 1776 الى الحرية الاقتصادية1, بالإضافة الى ظهور مجموعة من المفكرين
التقليديين في بريطانيا يدعون الى الحرية الاقتصادية ليس اعتماداً على الحقوق الطبيعية
كما تقول المدرسة الطبيعية, واما اعتماداً على مبداً المنفعة والمصلحة الشخصية التي
وضع اسسه هيوم وبنثام.
ولكن النظرية
الفردية لم تتبلور بصورة جلية الا في فترات لاحقة لظهور العلماء سالفي الذكر, وذلك
على يد اثنين من العلماء البارزين الذين كان لجهودهما اثاراً واضحة في ظهور الأفكار
الفردية بصورة متكاملة خاصة في الجانب السياسي وفيما يلي استعراض لأهم افكارهما.
1- جون ستيوارت
مل 1806 – 1873
دافع مل عم
الحرية الفردية ضد تدخل الدولة, ودعى الى حرية التعبير عن الرأي, وقال بان التصادم الحر بين الآراء يجعل الأفكار القويمة هي التي
تنتصر, كما دافع مل في كتابه الحكومة النيابية عن الحكم الديمقراطي والنيابي, وارجع
السيادة في الدولة لمجموع الفراد المكونين للمجتمع.
2- هربرت سبنسر
1820 – 1902
وهو احد علماء
الاجتماع الذين حاولوا الدفاع عن المبدأ الفردي والحرية الفردية استناداً الى أسس علمية
ضد تدخل الدولة, واعتمد دفاعه هذا على ان الحقوق الطبيعية تحتاج الى حريات فردية لصيانتها,
وان الخلال بهذه القاعدة سيؤدي الى فرض الانسان ارادته على الآخرين بالقوة, وان تدخل
الحكومة هو في الغالب لمصلحة جماعة معينة ضد مصلحة غيرها من الجماعات, ومن الأفضل عدم
تدخل الدولة في أوجه النشاط المختلفة لكي لا تحد من حريات الافراد.
مضمون التجاه الفردي
يقوم الأساس
العلمي للنظرية الفردية على مجموعة من المبادئ الاساسية نذكر منها:
1- الايمان بفكرة
القانون الطبيعي, وما يترتب عليها من حريات وحقوق طبيعية مقدسة للأفراد.
2- ان المصلحة الشخصية
هي الباعث الأقوى لنشاط الانسان وهي التي تحقق النمو والازدهار للمجتمع. وان المصلحة
العامة تتحقق من خلال تحقيق مصلحة الافراد.
3- ان المنافسة
هي الامتحان الذي يفرز العناصر الجيدة ويضمن سيادتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية الخ.
وظيفة الدولة في النظرية الرأسمالية:
ينظر انصار
النظرية الفردية للدولة باعتبارها شر لا بد منه, وان تدخلها يجب ان يكون في اضيق الحدود,
وان يقتصر دورا على الوظيفة الحمائية والتي تتلخص في :-
1- حماية الدولة
والافراد من العدوان الخارجي .
2- حماية الملكية
الخاصة وصيانتها.
3- حماية الصفة
الإلزامية للعقود والالتزامات الناشئة عنها.
4- حماية حقوق الافراد
وحرياتهم داخل نفس الدولة.
هذا بالإضافة
الى ان معظم انصار المذهب الفردي قد اجازوا للدولة القيام ببعض المشروعات العامة التي
لا يقوم بها الافراد لانها لا تحقق لهم منفعة شخصية ولكنها ذات منفعة للمجتمع ككل.
تقييم النظرية الرأسمالية
جاءت ولادة
هذه النظرية تعبيراً صادقاً عن الحالة المزرية التي وصلت اليها حالة الفرد في أوروبا
في بداية العصور الحديثة, وكرد فعل للآثار السيئة الناتجة عن الحكم المطلق والاستبدادي
الذي اودى بحريات الافراد وحقوقهم.
وقد ساهمت
هذه النظرية في اثراء الحرية الفردية للافراد وفي حماية الحقوق الشخصية, كما ساهمت
في الحد من التدخل السيء للحكومات في الحياة العادية للافراد, مما فتح المجال لنشوء
وتطور النظم الديمقراطية وبروز أهمية المشاركة الشعبية في الحكم.
ولكن بالرغم
من هذه الفوائد الجمة التي جناها المجتمع البشري نتيجة لظهور النظرية الفردية فان هناك
مجموعة من المثالب والانتقادات التي وجهت لهذا المذهب:-
1- بنى انصار النظرية
الفردية نظريتهم على أساس وجود حقوق طبيعية للفرد منذ نشأته وهي حقوق سابقة لوجود المجتمع.
وهذا القول يخالف الطبيعة من حيث كون المجتمع هو الذي يمنح هذه الحقوق.
2- تجاهل انصار
النظرية الفردية التعارض المحتمل بين المصلحة الخاصة والمصلحة الهامة, ويؤخذ عليهم
في هذا المجال اصرارهم على أهمية المصلحة الخاصة مما أدى الى ظهور مجموعة من التناقضات
الطبقية والاقتصادية داخل المجتمع الواحد.
3- افتراض سيادة
المنافسة على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية, وهو امر لم يحدث من الناحية
الواقعية, وحل محلها الاحتكار الذي أدى الى تمركز رأس المال في طبقة محدودة بينما عانت
الأغلبية الساحقة من الفقر الشديد.
4- يؤخذ على انصار
هذه النظرية اسرافهم الحاد في تحديد وظيفة الدولة ونشاطها, وذلك نابع من فساد الحكومات
في عصرهم وقله كفاءتها, كما تجاهلوا وظيفة الدولة في القيام بالمهام التي تهم مجموع
المواطنين. وفي تنظيم المجتمع ورفع مستوى الجماعة.
النظرية الاشتراكية
ان كلمة الاشتراكية
كلمة عامة ويثير استخدامها كثيراً من المجادلات والنقاشات الحادة حول تحديد مفهومها,
والمقصود بفكرة الاشتراكية هنا مفهوماً عاماً يهدف اساسً لتحقيق عدالة التوزيع للدخل,
وان الملكية الجماعية هي الوسيلة لتحقيق هذا الهدف, وهي بذلك تختلف عن الشيوعية ( الاشتراكية
العلمية كما يسميها أنصارها) التي تمثل تصوراً محدداً لماركس وانصاره لهذه الفكرة والتي
ارتبطت ايضاً بحالات تطبقيه لها كما في الاتحاد السوفيتي أو الصين, وانطلاقاً من هذا
التصور لمفهوم الاشتراكية سنحاول فيما يلي استعراض اراء اهم المفكرين الذين تناولوا
جوانبها المختلفة عبر التاريخ:-
1- توماس مور
1516 وهو صاحب كتاب اليوتوبيا Utopia الذي يصور فيه جزيرة خيالية يقوم فيها مجتمع مثالي
يعتمد على الملكية الجماعية ويعمل على تحقيق المساواة بين افراده ويسعى للتخلص من
الفقر
2- روبرت اوين
1771 – 1858.
يعد اوين احد رواد الفكر الاشتراكي في القرن التاسع ومؤسس
حركة التعاون في إنجلترا. وقد انطلق اوين في عرضه لافكاره من خلال توجيه النقد الشديد
للمصلحة الفردية وترك المنافسة حرة بين الافراد واعتبرهما مسئولتين عن بؤس العمال وانتشار
الفقر في المجتمع.
وقد حاول اوين
تطبيق أفكاره هذه في المصنع الذي يملكه في اسكتلندا وفي القرية التعاونية التي أقامها
في أمريكا سنة 1824, وسعى اوين في محاولاته تلك لتحقيق مجتمع مثالي متكامل يحقق الرفاه
للجميع العمال وصاحب العمل, بواسطة الاقناع وليس الثورة , ومن خلال إحلال الشعور بالمصالحة
العامة لدى الطرفين محل المصلحة الخاصة.
3- والى جانب اوين
ظهر كل من شارل فورييه 1772 – 1837 ولوي بلان 1813 – 1882 يدعوان الى إقامة مجتمعات
تعاونية, يكون العامل فيها شريكاً في رأس المال ويتم توزيع الدخل بداخلها بناء على
العمل.
4- وفي نفس الوقت
ظهر سان سيمون 1760-1825 وتلامذته ينادون بضرورة الاهتمام بمصلحة العاملين وسيطرة الدولة
على الملكية الخاصة في المجتمع. ولكن بالرغم من انتشار الأفكار التعاونية والاشتراكية
هذه لدى كثير من المفكرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فانها بقيت عاجزة عن حل
ازمة المجتمعات الرأسمالية, ولم تستطع الحيلولة دون تدهور الأوضاع في هذه المجتمعات
وزيادة الاحتكار فيها, وتدني مستوى العمال وزيادة البطالة مما مهد الطريق لكارل ماركس
واعوانه لطرح تصورات جديدة في هذا المجال.
النظرية الماركسية
تنسب الماركسية الى كارل ماركس الألماني الذي ولد سنة
1818 في بلدة تريف لأبوين من اصل يهودي اعتنقا الديانة المسيحية في صغره وقد درس ماركس
القانون والفلسفة والتاريخ في جامعة برلين, ولكنه سرعان ما اشتغل بالسياسة والصحافة,
وقد أدت أفكاره المتطرفة الى طرده من المانيا فتنقل في كل من باريس, وبروكسل, واخيراً
استقر به المطاف في لندن وهناك الف كتابه المشهور رأس المال- ثلاث أجزاء.
وبالرغم من
ان الماركسية تنسب الى ماركس فان الفهم الواعي لهذه النظرية يتطلب منا ايضاً الإحاطة بافكار وجهود كل من فردريك انجلز ولينين
وما قدما من إضافات لبلورة هذه النظرية في صورتها المتكاملة. وفي استعراضنا لهذه النظرية
سنحاول التركيز على الأسس العامة لهذه النظرية كوحدة متكاملة.
فيما يلي اهم الأسس والنظريات التي تقوم عليها الماركسية:-
1- المادية الجدلية
( الديالكتيك).
تشكل هذه النظرية الأساس الفلسفي للنظرية الماركسية, ويرجع
الفضل في وضع أسس هذه النظرية واصولها للعالم الألماني هيجل الذي قال بان العالم حقيقة
متغيرة, وان هذا التغير يتم عن طريق صراع الاضداد المتعارضة وتقول هذه النظرية بان
الفكر نتاج المادة وان الحياة عبارة عن صراع بين الاضداد وان هذا الصراع يؤدي الى التطور.
وقد حاول ماركس
وانجلز توسيع دائرة تطبيق هذه النظرية في المجال العلمي للاستفادة منها في دعم نظرياتهم
اللاحقة.
2- المادية التاريخية.
ترتيباً على مبادئ المادية الجدلية قام ماركس بوضع أسس نظريته
المادية التاريخية لتشمل هذه النظرية الحياة الإنسانية واستعملها في دراسة التاريخ
الإنساني والحياة الاجتماعية, وتوصل الى ان هناك تلازماً اكيداً بين ظروف المجتمع المادية
والاجتماعية, وان تغير الأحوال المادية في المجتمع ينعكس بالضرورة على ظروف العالقة
الاجتماعية بداخله.
3- نظريات صراع
الطبقات.
اعتماداً على النظرية الجدلية والنظرية المادية التاريخية
حاول ماركس تفسير التاريخ البشري: على انه عملية صراع دائم بين افراد المجتمع دافعه
اقتصادي لامتلاك وسائل الإنتاج, وان هذا الصراع سيؤدي الى انقسام المجتمع الى طبقتين
متعارضتين احدهما تستغل الأخرى. وان نتيجة هذا الصراع بين الطبقات هي التي تحدد مسار
التاريخ الإنساني عبر العصور. ففي المرحلة الأولى لتطور البشرية كانت الملكية مشاع
ولم يكن هناك ملكية خاصة ولهذا كان هذا المجتمع مجتمعاً لا طبقياً, ولكن حين تحولت
الحياة المادية في المرحلة البدائية الى مرحلة الزراعة وامتلاك الأرض ظهرت طبقة المزارعين,
مالكي الأرض في مواجهة طبقة العبيد. وبعد تطور قوى الإنتاج واختراع أدوات الزراعة والصناعة
البسيطة بدأت تظهر طبقة الاقطاع مالكي الأرض ونتج عن هذا التطور تحول الصراع الى صراع
بين طبقة الاقطاع وطبقة الفلاحين العاملين في الأرض, ومع تقدم قوى الإنتاج وحلول المصانع
الكبيرة والتجارة محل الزراعة والحرف المهنية بدأت تظهر الطبقة البرجوازية لتحل محل
الاقطاع وليبدأ صراع جديد بين هذه الطبقة والطبقة الأخرى المرافقة لمجيئها وهي طبقة
العمال ( البروليتاريا).
وهكذا فالتاريخ
صراع دائم بين الطبقات تقرره طبيعة قوى الإنتاج داخل المجتمع.
4- نظرية الثورة
الاجتماعية.
ترتبط نظرية الثورة في الفكر الماركسي بتطور ظروف المجتمع
المادية ونظرية صراع الطبقات, فحين تصبح علاقات الإنتاج عاجزة عن التعبير عن تقدم قوى
الإنتاج ينشأ صراع بين القوى الإنتاجية الجديدة وبين علاقات الإنتاج القديمة, وينبثق
عن هذا الصراع تناقض في المصالح الطبقية داخل المجتمع, بين الطبقة القديمة التي تحاول
المحافظة على علاقات الإنتاج القديمة وبين الطبقة النامية التي ترنو لإقامة علاقات
جديدة, وستحاول في هذه الحالة الطبقة القديمة المحافظة على امتيازاتها من خلال استخدام
قوة الدولة وسلطاتها, وهنا تجد الطبقة الجديدة نفسها مضطرة للجوء للثورة والعنف للسيطرة
على السلطة وتغيير علاقات الإنتاج بالقوة. مما سبق نستنتج بأن تصور الماركسيون للثورة
بانها ثورة اجتماعية تقوم بها طبقة معينة للسيطرة على السلطة المتحكمة بوسائل الإنتاج.
هذا وقد اسهب
ماركس واتباعه فيما بعد في سرد الظروف المادية والاجتماعية التي تستوجب الثورة على
المجتمع البرجوازي القائم, ويلاحظ في هذا المجال بان تصورات ماركس وانجلز لهذه الثورة
التي ستقودها البروليتاريا بانها ستؤدي لحكم ديكتاتوري وتكون ثورة اممية تتحد فيها
الطبقات العمالية في المجتمعات البرجوازية لتقوم بالثورة وتطيح بهذا النظام في كل العالم.
الدولة في النظرية الماركسي
تنشأ الدولة
حسب النظرية الماركسية كنتيجة منطقية لانقسام المجتمع الى طبقات وان الدولة عبارة عن
أداة قهر تستخدمها الطبقة الأقوى اقتصادياً لإخضاع الطبقات الأخرى داخل المجتمع7. وانه
بمجرد اختفاء الطبقات كما هو أحال في مرحلة الشيوعية فان مبرر وجود الدولة سيزول, وبالتالي
تصبح الدولة غير ضرورية. وبناء على هذا التصور لدور الدولة فان الفكر الماركسي يرى
بان وظيفة الدولة في المجتمع الاشتراكي, وفي هذه المرحلة تكون الدولة لازمة لطبقة البروليتاريا
لتحقيق القضاء على الطبقات الأخرى وتحقيق الملكية الجماعية والسعي لتحقق المساواة بين
الافراد.
وبعد تحقيق
هذه الأهداف تذبل الدولة لزوال مبرر وجودها ويستعاض عنها بإدارة مشتركة تشرف على تنظيم
وسائل الإنتاج دون ان يكون لها أي صفة سياسية.
الأسس والمميزات العامة للنظرية الماركسية.
1- النظرية الماركسية
نظرية علمية:
يصف الماركسيون مذهبهم بانه مذهب علمي, ويطلقون على اشتراكيتهم
الاشتراكية العلمية, وذلك لتميزها عن الدراسات السابقة للاشتراكية التي اعتبروها نظريات
خيالية مثالية. ويدعي الماركسيون بان مذهبهم ونظرياتهم قد جاءت نتيجة البحث العلمي
والتمحيص الدقيق والتحليل المنطقي للظواهر الاجتماعية عبر التاريخ استنادا الى أسس
البحث العلمي.
2- انها نظرية اقتصادية
مادية
نلاحظ بان الماركسيون يحاولون تفسير كافة الظواهر الاجتماعية
والسياسية على أسس اقتصادية مادية, باعتبار أن الاقتصاد والظروف المادية هي التي تخلق
الأفكار والأنظمة والعلاقات الاجتماعية وهم بذلك ينكرون الجوانب الروحية والدينية واثرها
في حياة الانسان.
3- انها نظرية عمالية
يلاحظ المدقق في النظرية الماركسية بانه تولي أهمية خاصة
نحو طبقة العمال, وتعتبرها الهدف الاسمى الذي تسعى النظرية لخدمته, وان هذه الطبقة
هي الأمل الذي سيحقق الرفاه للبشرية من خلال اقامتها للشيوعية وهدمها للنظام الرأسمالي,
ويرفض الماركسيون الحديث عن الحلول الوسط بين طبقة العمال والطبقات الأخرى.
4- انها نظرية ثورية
عنيفة
بناء على نظرية صراع الطبقات السالفة الذكر, يرى الماركسيون
بانه لابد من استخدام العنف والقوة للتخلص من الطبقات الرجعية في المجتمع, وحتمية لجوء
الطبقات العاملة للثورة للوصول الى المجتمع الاشتراكي المنشود.
5- انها نظرية اممية
وعالمية
يرفض الماركسيون دور الاعتبارات القومية والوطنية في الحياة
السياسية وينظرون للقومية على انها نوع من البدع البرجوازية التي يحاولون بها تعطيل
نضال الطبقات العاملة, ويدعون الى وحدة الطبقات العاملة في العالم ويسعون لإقامة مجتمع
عالمي تحكمه الطبقة العاملة, ولذلك جاءت الدعوة في البيان الشيوعي لجميع عمال العالم
للتوحيد وإقامة التنظيمات العمالية العالمية. (( ياعمال العالم اتحدو)).
تقييم النظرية الماركسية.
اثارت النظرية
الماركسية اكثر من غيرها عاصفة من الجدل في الفكر السياسي, ونتج عنها مجموعة من الصراعات
والانتقادات المتبادلة بين أنصارها وخصومها.
واذا اردنا
ان نعطي هذه النظرية حقها لا بد لنا من الاعتراف باثر هذه النظرية في بلورة منهجية
جديدة في الدراسات العلمية السياسية, وذلك من خلال قيام هذه النظرية بالربط بين الفكر
والحركة, والربط بين الهداف والوسائل للوصول لهذه الأهداف, وكذلك يجب الاعتراف بدور
هذه النظرية في الربط بين الظاهرة السياسية والاقتصادية, ومساهمتها في إعطاء نظرة جديدة
لتطور التاريخ البشري والمجتمع الإنساني من خلال تركيزها على دور البيئة والجماعة وتأثيرها
في التاريخ اكثر من الافراد.
كما يجب عدم
اغفال دور هذه النظرية في تحسين أحوال الطبقات العمالية سواء في الدول الاشتراكية أم
الرأسمالية من خلال سعي هذه الأخيرة لمنع الثورة التي تنبأت بها هذه النظرية والتي
لاقت رواجاً في هذه الدول.
وبعد هذا العرض الموجز لدور واهمية النظرية الماركسية في
الفكر السياسي سنقدم فيما يلي اهم الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية:-
تعرضت النظرية
الماركسية لمجموعة من الانتقادات شملت معظم نظرياتها ودعائمها وفيما يلي نوجز هذه الانتقادات.
1-فيما يتعلق بالمادية التاريخية:
لا يستطيع كاتب منصف ان ينكر دور العامل المادي والاقتصادي
في التاريخ ولكن القول بان هذه العامل هو المحرك الوحيد للتاريخ فهي مسألة لا يمكن
التسليم بها, حيث سنجد بان هناك قوى سياسية وقومية وعسكرية لعبت أدوار مستقله عبر التاريخ.
2- فيما يتعلق بالنظرية
الجدلية.
تعرضت هذه النظرية ايضاً لكثير من الانتقادات على أساس انها
نظرية الحادية تنكر دور الدين والخالق, كما وجه الطعن لمقولة هذه النظرية بان المادة
سابقة للفكر لأن هذه المقولة قائمة على التجريد والتصور ولاتوجد أسس علمية تدعمها أي
أنها نظرية فلسفية وليست علمية.
3- نقد نظرية صراع
الطبقات
اول ما يؤخذ على الماركسية محدوديتها في تعريف الطبقة وقصرها
على الطبقة الاقتصادية فقط, بينما يثبت الواقع
بان هناك طبقات داخل المجتمعات تقوم على أسس مغايرة للعامل الاقتصادي والثورة.
كذلك فان إصرار
هذه النظرية على انقسام المجتمع الى طبقتين فقط امر مشكوك فيه حيث سنجد بان الطبقة
الوسطى بدأت تزدهر في كثير من المجتمعات وحافظت على وجودها عبر التاريخ. كما يمكن توجيه
النقد لفكرة الصراع الدائم بين الطبقات في المجتمع, اذ نجد بان كثيراً من الطبقات المتنافسة
داخل المجتمع تتكتل وتتوحد معاً في مجتمع واحد في صراعها ضد الطبقات الأخرى في مجتمع
وطني آخر.
4- تصر النظرية
الماركسية على ضرورة اللجوء الى العنف والصراف الدموي ضد الطبقات المسيطرة لهدم النظام
القائم, وترفض هذه النظرية الحلول السلمية للمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
وتعتبرها مؤقتة, وتستمر هذه الحالة بعد سيطرة الطبقة العاملة على الحكم من خلال اللجوء
الى الديكتاتورية التي لم تحدد مدتها وتعتمد على العنف والقوة لإذابة الفوارق بين الطبقات,
ولا مانع من قيامها بمصادرة حريات الافراد خلالها, وهنا يلاحظ بان العنف اعتبر الوسيلة
الوحيدة لتحقيق الأهداف, وان هناك تجاهلاً واضحاً لحقوق الافراد وحرياتهم خاصة اذا
كانوا من الطبقات الأخرى.
5- عدم صحة تنبؤات
ماركس
يقدم لنا التاريخ والواقع نماذج كثيرة خالفت في طبيعتها ما
تنبأ به ماركس وقدم لنا دليلاً علمياً على عدم صحة هذه التنبؤات وعدم صحة ادعاءات هذه
النظرية بالعلمية والتنبؤ العلمي منها تنبأ ماركس بان التطور التاريخي للأنظمة في العالم
سيكون من نظام اقطاعي الى رأسمالي ثم اشتراكي تسوده ديكتاتورية البروليتاريا وبعدها
تأتي مرحلة الشيوعية ولكن التاريخ اعطانا نماذج مغايرة لتحول مجتمعات اقطاعية مثل الصين
وروسيا الى مجتمع اشتراكي دون مرورها بمرحلة الرأسمالية, كما ان هذا التطور يدحض تنبؤات
ماركس من ان الثورة ستقوم في اكثر البلاد رأسمالية وهي المانيا وامريكا وبريطانيا ومن
التنبؤات الأخرى التي كذبها التاريخ تصورات ماركس لتمركز رأس المال وزيادة الفروق بين
الطبقات وان هذا التمركز الطبقي سيقود للثورة, بينما اثبت الواقع ان كثير من المجتمعات
الرأسمالية استطاعت ان تحافظ على نوع من توزيع الثروة داخل المجتمع بالطرق السلمية
وان العمال استطاعوا الحصول على حقوقهم دون اللجوء للثورة وان الصراع الطبقي قد خفت
حدته نتيجة وجود طبقة وسطى كبيرة.
ومن التنبؤات
الأخرى ما أشار له ماركس من ان العمال سيؤلفون اتحاداً عالمياً يجمعهم وينظم نضالهم
ضد الطبقات الأخرى وان الثورة التي سيقودها العمال ستكون ثورة عالمية.
وما هذه الا
نماذج لبعض تصورات ماركس التي اثبت التاريخ زيفها وهي على سبيل المثال وليس الحصر.
وبعد هذا الاستعراض
السريع لبعض الانتقادات التي وجهت للنظرية الماركسية والتي عكست عجز هذه النظرية عن
مسايرة الواقع المتغير للعالم يجدر بنا الإشارة الى ظهور عده تعديلات على هذه النظرية.
ومن هذه التعديلات
ما اضافه لنين عن إمكانية قيام طبقة الفلاحين بالثورة بدلا من طبقات العمال وعن إمكانية
قيام الثورة في بلد واحد على أساس نظريته عن الحلقة الأضعف في السلسلة من خلال نظرته
للعالم الرأسمالي كوحدة واحدة وان الثورة يمكن ان تقع في اضعف مجتمع من هذه السلسلة
وهو روسيا.
وكذلك ما اضافه
ماوتسي تونج من ابعاد قومية للثورة الشيوعية وان الحظب الشيوعي قد يصل للحكم دون ان
يكون مرتبطاً بالحزب الشيوعي القائم في روسيا.
واخيراً ما اضافته الاشتراكية الفابية والتي
تبنتها الأحزاب الشيوعية الأوروبية والتي تقول بإمكانية قيام المجتمع الشيوعي بالوسائل
الديمقراطية والتدريجية دون حاجة الثورة.
