مقدمة:
تعد القاعدة الدستورية القائلة "لا يعذر أحد بجهل القانون"، المنصوص
عليها في المادة 78 الفقرة (2) من الدستور الجزائري، حجر الزاوية في بناء دولة القانون.
غير أن فعالية هذه القاعدة وشرعيتها مرهونتان بمدى إتاحة النص القانوني وسهولة فهمه
من قبل المخاطبين به. ولا يمكن تحقيق هذا الشرط في ظل تشتت النصوص القانونية وتناثرها،
وغياب عملية تحديثها المستمر (التحيين)، مما يؤدي إلى غموضها وتناقضها أحياناً. ومن
هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحة إلى عمليتي تجميع النصوص القانونية وتحيينها كضرورة
قانونية ومجتمعية لضمان الأمن القانوني، وتحسين جودة التشريع، وترسيخ مبدأ علانية القوانين
وسيادتها. وقد أكدت التعليمة رقم 160 الصادرة عن الوزير الأول بتاريخ 28 أفريل
2022 على هذا التوجه، داعية إلى تفعيل "اليقظة القانونية" من خلال إحصاء
وتقييم وتكييف وتحين النصوص القانونية السارية. ويهدف هذا البحث إلى دراسة هذه العملية
من خلال مبحثين: الأول يتناول الإطار النظري لعملية التجميع والتحيين، والثاني يسلط
الضوء على الآثار والفوائد والمبادئ المنظمة لها.
المبحث الأول: الإطار النظري لتجميع النصوص القانونية
وتحيينها
يقتضي فهم عملية تجميع النصوص القانونية وتحيينها تحديد ماهيتها والأهداف التي
تسعى لتحقيقها، وذلك كما يلي:
المطلب الأول: مفهوم تجميع النصوص القانونية وتحيينها
1-تجميع النصوص القانونية: هي عملية منهجية تهدف إلى جمع جميع
النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بقطاع معين أو موضوع محدد في وثيقة واحدة، وفق
ترتيب هرمي وزمني ومنهجي متماسك. وتهدف إلى توفير نظرة شاملة ومتكاملة للإطار القانوني،
مما يسهل عملية الاطلاع عليه والبحث فيه، والتمييز بين الأحكام النافذة والملغاة.
2-تحيين النصوص القانونية: هي عملية ديناميكية مستمرة تهدف إلى
تحديث النص القانوني وجعله متطابقاً مع الوضع التشريعي الساري. وتتمثل في حذف الأحكام
الملغاة صراحةً، وإدراج الأحكام الجديدة المعدلة أو المتممة، مع الحرص على الحفاظ على
انسجام النص الأصلي وعدم المساس بترتيبه العام، والإشارة بوضوح إلى كل عملية تعديل
أو إلغاء.
المطلب الثاني: الأهداف الأساسية من التجميع والتحيين
تهدف عمليتا التجميع والتحيين إلى تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها:
-تحسين جودة النص القانوني: من خلال توحيد المصطلحات، وسحب الأحكام غير الدستورية
أو الملغاة، وضمان الانسجام الداخلي بين النصوص.
-توفير الأمن القانوني: بوضع حد للغموض والتناقض في الأحكام، مما يحد من الاجتهادات
القضائية المتعارشة ويبعث الطمأنينة في نفوس الأفراد والمستثمرين.
-تسهيل الولوج إلى القانون: بجعله أكثر قابلية للقراءة والفهم من خلال جمعه
في وثيقة واحدة متماسكة.
-تمكين المشرع من تقييم المنظومة القانونية: منح المشرع رؤية شاملة تمكنه من
الوقوف على مواطن النقص والنصوص التي تحتاج إلى إصلاح أو تطوير.
-تفعيل مبدأ عدم جواز الاعتذار بجهل القانون: من خلال توفير نص قانوني واضح،
محين، وسهل التداول.
المبحث الثاني: الآثار والفوائد والمبادئ المنظمة للتجميع
والتحيين
لعمليتي التجميع والتحيين انعكاسات إيجابية وسلبية في حال القيام بهما أو إهمالهما،
كما أنهما يحكمانها مجموعة من المبادئ التقنية.
المطلب الأول: آثار غياب عملية التجميع والتحيين
يؤدي إهمال تجميع النصوص القانونية وتحيينها إلى عواقب وخيمة على النظام القانوني
للدولة، منها:
-تعقيد البحث القانوني: تشتت النصوص في وثائق متعددة يصعب معه تتبعها، مما يعيق
الباحث والمختص والمخاطب بأحكام القانون.
-ضعف فعالية القانون: صعوبة الوصول إلى النص المحين يؤدي إلى الخطأ في التطبيق،
وعدم إمكانية تنفيذ بعض القوانين لغياب نصوصها التطبيقية.
-الإضرار بالاستثمار والاقتصاد: غياب الإطار القانوني الواضح والمستقر يخلق
مناخاً من عدم اليقين، مما يثبط عزيمة المستثمرين ويؤدي إلى تبديد الطاقات الاقتصادية
والعلمية.
-غموض الأحكام وعدم الأمن القانوني: تناقض النصوص وقدم بعضها يؤدي إلى تضارب
في الاجتهادات القضائية، مما ينشر الشعور بعدم العدالة وانعدام الأمن القانوني.
المطلب الثاني: الفوائد والمزايا المرجوة من التجميع والتحيين
في المقابل، يحقق اعتماد عملية التجميع والتحيين فوائد عديدة، تشمل:
-تبسيط المنظومة القانونية: جعل القانون أكثر سهولة ووضوحاً من خلال تجميعه
في وثيقة واحدة محينة.
-تعزيز فعالية القانون: تسهيل تطبيق القانون من قبل الإدارة والقضاء على حد
سواء.
-تحسين مناخ الأعمال: توفير إطار قانوني واضح ومستقر يشجع على الاستثمار ووضع
استراتيجيات التنمية.
-إعادة ثقة المواطن في القانون والمؤسسات: من خلال ضمان الشفافية واليقين القانوني.
-تسهيل عملية الإصلاح التشريعي: توفير قاعدة بيانات قانونية دقيقة تمكن المشرع
من تحديد أولويات الإصلاح بدقة.
المطلب الثالث: المبادئ والتقنيات المنظمة للتجميع والتحيين
لضمان نجاح عملية التجميع والتحيين، لا بد من الالتزام بمجموعة من المبادئ والتقنيات:
1-مبادئ وتقنيات التجميع:
تحديد معيار التجميع: يمكن اعتماد المعيار القطاعي (تجميع
نصوص قطاع معين) أو المعيار الموضوعي (تجميع نصوص موضوع معين بغض النظر عن القطاع).
ترتيب النصوص: يتم الترتيب وفقاً لمبدأ التدرج الهرمي
(الدستور، الاتفاقيات الدولية، القوانين العضوية... إلخ) أو الترتيب الزمني (حسب تاريخ
الصدور)، أو بطريقة تراعي وحدة الموضوع.
2-مبادئ وتقنيات التحيين:
حذف الأحكام الملغاة: يشترط أن يكون الإلغاء صريحاً، مع
الإشارة إلى النص المُلغِي وتاريخه. ولا يتم حذف التأشيرات أو الأحكام الانتقالية والنهائية
للنص الأصلي.
-إدراج الأحكام الجديدة: يتم إدراج التعديلات في مكانها المحدد
في النص المعدل، مع الإشارة إلى ذلك، والحرص على عدم المساس بترتيب النص الأصلي.
-مبدأ ثبات النص الأصلي: الحفاظ على هيكل وترقيم النص الأصلي
قدر الإمكان لضمان استقرار الإحالات القانونية.
-استبدال المصطلحات: في حال تعديل مصطلح في نص لاحق، يتم
استبداله مع الحذر الشديد لعدم تغيير المعنى المقصود من قبل المشرع الأصلي.
خاتمة:
تعد عملية تجميع النصوص القانونية وتحيينها ركيزة أساسية لبناء دولة القانون
وتحقيق الأمن القانوني. فهي ليست مجرد إجراء تقني، بل هي تجسيد عملي للضمانات الدستورية
التي تكفل حق الأفراد في معرفة القوانين التي تحكمهم. ومن خلال معالجة الآثار السلبية
الناجمة عن تشتت النصوص وقدمها، وتسليط الضوء على الفوائد الجمة لهذه العملية، يتضح
أن الاستثمار في "اليقظة القانونية" هو استثمار في استقرار الدولة وازدهارها.
وعليه، فإن النجاح في هذا المسار يتطلب إرادة سياسية حقيقية، وتظافر جهود جميع القطاعات
في إطار خطة استراتيجية شاملة، لتحقيق الهدف الأسمى وهو وضع تشريع واضح، منسجم، وسهل
التطبيق، يعزز ثقة المواطن ويخدم تنمية المجتمع.
