مقدمة
حظيت القيم باهتمام بالغ عبر العصور، إذ تُعدّ الركيزة الأساسية التي يستند إليها المجتمع في توجيه سلوك الأفراد وتحديد معايير التنشئة الاجتماعية. فالقيم هي الإطار المرجعي الذي تعتمد عليه الأنظمة التربوية لغرس المبادئ السامية في نفوس الناشئة. وتقوم التربية، في جوهرها، على منظومة قيمية تستمد مرتكزاتها من العقيدة والمحيط الاجتماعي، بما يخدم الصالح العام للأجيال المقبلة.
ويجمع فلاسفة التربية على أنّ المشكلات التربوية الكبرى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسائل القيمة، مما يجعل من الضروري أن تتبنى الدولة نظامًا تعليميا مُخططًا قادرًا على نقل التراث الثقافي وتنميته، وتربية أجيال قادرة على تحمل مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وفي السياق الجزائري، تسعى المنظومة التربوية إلى بناء رؤية مستقبلية واضحة ترتكز على التخطيط المحكم وتطوير المناهج بما يتماشى مع توجهات الدولة ورهانات العصر. فالقرارات التربوية تعكس إرادة الدولة في غرس قيم محددة وتوجيه الناشئة نحو بناء مجتمع متماسك ومتطور.
ويمثل المنهاج التربوي أحد أهم الركائز في تشكيل شخصية المتعلم، استنادًا إلى مبادئ التربية الحديثة: التعلم للمعرفة، التعلم للعمل، التعلم للعيش مع الآخرين، والتعلم ليكون الفرد ذاته. ومع التحولات المتسارعة التي فرضتها العولمة والتغيرات الاجتماعية، أصبحت المدرسة مدعوة إلى ترسيخ القيم الوطنية وحماية الهوية.
وتبقى المواطنة هدفًا محوريًا في المناهج التربوية الحديثة، باعتبارها مجموعة من الحقوق والواجبات التي تربط الفرد بدولته، وتشمل جوانب الهوية والانتماء والمسؤولية. ويعرّفها المختصون بأنها "مجموعة التزامات متبادلة بين الفرد والدولة تشمل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية مقابل أداء الواجبات الدستورية".
ومن هنا تبرز أهمية غرس قيم المواطنة لدى المتعلمين منذ المرحلة الابتدائية، لضمان تكوين مواطن واعٍ، مسؤول، ومتشبع بقيم وطنه. وانطلاقًا من ذلك، تتناول هذه الدراسة دور المنهاج التربوي في ترسيخ قيم المواطنة من خلال كتاب التربية المدنية للسنة الخامسة ابتدائي.
وقد تم تقسيم هذا العمل إلى أربعة فصول تتناول: الإطار العام للدراسة، الجوانب السوسيولوجية للمناهج، قيم المواطنة ومبادئها، ثم الجانب الميداني ونتائج الدراسة.
الفصل الأول: الإطار العام للدراسة
I-1 الإشكالية وفرضيات الدراسة
I-1-1 الإشكالية
أصبحت المواطنة واحدة من أكثر الموضوعات تداولاً في الدراسات الاجتماعية والتربوية الحديثة، نظرًا لدورها المركزي في تحليل الظواهر الاجتماعية وقياس مدى احترام الحقوق المدنية والسياسية داخل المجتمعات. وتختلف أبعاد المواطنة باختلاف طبيعة العلاقات بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والدولة، وفق الأطر القانونية والإيديولوجية التي تُوجِّه النظام السياسي.
ولا تُولد المواطنة مع الفرد، بل تُكتسب عبر التنشئة الاجتماعية والتربية الممنهجة، حيث تلعب المدرسة دورًا أساسيًا في بناء شخصية المتعلم معرفيًا واجتماعيًا وثقافيًا. وتُعد التربية المدنية من أهم المواد التي ترسخ هذه القيم عبر تعريف المتعلمين بمفاهيم الدولة، الدستور، الديمقراطية، الحقوق، الواجبات، المسؤولية الاجتماعية وغيرها.
وبما أنّ المنهاج التربوي يعكس السياسة التعليمية للدولة، فهو يسعى إلى إعداد مواطن المستقبل وفق رؤية وطنية واضحة. ويُعد تنظيم المنهاج من أهم مراحل بناء المنظومة التعليمية، إذ يعتمد على أسلوب تقديم المحتوى، وتنظيم الخبرات، وتحديد دور المتعلم والمعلم.
وقد تنوعت التنظيمات المنهجية بين منهج المواد الدراسية، منهج النشاط، والمنهج المحوري، وكلٌّ منها يستند إلى رؤية خاصة لطبيعة المعرفة وعلاقتها بالمتعلم.
وانطلاقًا من المادة 02 من القانون التوجيهي للتربية الوطنية 08/04، التي تنص على تكوين “مواطن مزود بمعالم وطنية أكيدة ومتفتح على الحضارة العالمية”، تُطرح الإشكالية الرئيسية الآتية:
السؤال الرئيسي
إلى أي مدى يساهم المنهاج التربوي في غرس قيم المواطنة لدى تلاميذ السنة الخامسة ابتدائي من خلال كتاب التربية المدنية؟
الأسئلة الفرعية
-
ما مدى مساهمة منهج المواد الدراسية في غرس قيم الحياة الاجتماعية؟
-
ما مدى مساهمة منهج النشاط في تنمية قيم الحياة المدنية؟
-
ما مدى مساهمة المنهج المحوري في ترسيخ قيم الحياة الديمقراطية ومؤسسات الجمهورية؟
I-1-2 فرضيات الدراسة
الفرضية الرئيسية:
المنهاج التربوي الملائم يساهم في اكتساب وغرس قيم المواطنة لدى تلاميذ السنة الخامسة ابتدائي.
الفرضيات الفرعية:
-
يساهم منهج المواد الدراسية في غرس قيم الحياة الجماعية.
-
يساهم منهج النشاط في ترسيخ قيم الحياة المدنية.
-
يساهم المنهج المحوري في غرس قيم الحياة الديمقراطية.
I-2 أهمية الدراسة وأسباب اختيارها وأهدافها
I-2-1 أهمية الدراسة
تنبع أهمية هذه الدراسة من الدور الذي تلعبه المواطنة في تكوين شخصية المتعلم في المرحلة الابتدائية، خاصة عبر مادة التربية المدنية التي تشكل مجالًا خصبًا لغرس القيم الوطنية. كما تكتسي الدراسة أهمية علمية من خلال تقييم المناهج وبيان مدى توافقها مع أهداف السياسة التربوية للجزائر.
وتكمن أهمية الموضوع في:
-
تحليل المرجعية الفكرية والسياسية التي يعكسها المنهاج التربوي.
-
إبراز أهمية المواطنة في تنشئة جيل وطني مسؤول ومتشبع بالقيم الجزائرية.
-
دراسة تأثير مناهج التربية المدنية في تشكيل الوعي الوطني.
-
توضيح القيم التي تسعى الدولة إلى ترسيخها في الناشئة.
-
المساهمة في تطوير مناهج قوية تُعدّ مواطن المستقبل.
I-2-2 أهداف الدراسة
الهدف الرئيسي
استقصاء آراء المعلمين حول مدى تحقق الأهداف المسطرة في كتاب التربية المدنية للسنة الخامسة ابتدائي المرتبطة بقيم المواطنة.
الأهداف الثانوية
-
معرفة كيفية تناول موضوع المواطنة في كتاب الجيل الثاني للتربية المدنية.
-
تحديد قيم المواطنة التي يسعى النظام السياسي إلى ترسيخها عبر المنهاج.
-
قياس درجة التوافق بين قيم المواطنة كما وردت في الأسس المرجعية وما هو مطبق فعليًا.
-
الكشف عن القيم المواطِنة التي يقدمها الكتاب لمرحلة التعليم الابتدائي.
I-2-3 أسباب اختيار الموضوع
أولًا: الأسباب الموضوعية
-
انتشار سلوكات اجتماعية سلبية تجاه الوطن ومؤسساته.
-
ضعف الوعي بالحقوق والواجبات لدى فئات من المجتمع.
-
أهمية تعزيز التربية المدنية لمواجهة التحديات المجتمعية الحديثة.
-
ضرورة تقييم إصلاحات الجيل الثاني من المناهج.
ثانيًا: الأسباب الذاتية
-
الاهتمام الشخصي بموضوع التربية والسياسة التعليمية.
-
إدراك أهمية التعليم في بناء مجتمع متطور.
-
الرغبة في فهم موقع المواطنة ضمن المناهج التعليمية.