JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
Home

مقالة فلسفية هل يمكن الاستغناء عن الفرضية في مجال البحث العلمي؟

خط المقالة
هل يمكن الاستغناء عن الفرضية في مجال البحث العلمي؟

مقدمة إشكالية :
تعد التجربة خطوة حاسمة في البحث العلمي، فمنها يستمد العالم القوانين العلمية، غير أن فلاسفة العلوم لم يتفقوا حول دور الفرضية، بين قائل بضرورتها و قائل بإمكانية الاستغناء عنها.
فهل كل تجربة هي مسبوقة بفرضية؟ و هل يمكن الانتقال من الملاحظة إلى التجربة مباشرة؟ و هل الظاهرة العلمية معطاة أم منشأة؟ 
الموقف الأول :
إن التجريب العلمي قائم على أساس الاستقراء، الذي هو استدلال بالجزء على الكل، فيه نحصل على قضية عامة من عدة حالات خاصة، لهدا اتفق أصحاب المذهب التجريبي أمثال " فرونسييس بيكون "، " جون ستيوارت ميل "، " ديفيد هيوم " مع أصحاب النزعة الوضعية المنطقية، على أن مصدر القانون الطبيعي الخاص بالمادة الجامدة أو الحية الملاحظة الجيدة و التجريب.
فالقوانين العلمية في نظرهم ما هي إلا نتيجة قراءة جيدة للواقع، أي مجرد حقيقة يكتشفها الباحث في الطبيعة، فهي ليست فكرة من أبتكاره أو إبداعه. هدا معناه أن العقل لا وضيفة له في التجريب العلمي، إذ أننا ننتقل مباشرة من الملاحظة إلى التجربة، أما الفروض العلمية المزعومة لا تؤدي أي دور هنا، فهي أفكار ذاتية خيالية تأملية، لا تتقيد بالواقع، و من تم فهي تبعدنا عن مجال العلم و ملاحظة الحوادث. 
فعندما نريد أن نعرف ما إدا كان للمعدن قابلية للتمدد بالحرارة، إننا نقوم بإجراء عملي يتخلله الملاحظة و الانتباه لما يترتب عن التجارب من نتائج، و لا نكون في حاجة إلى افتراض أي فرض و لا استنتاج أي نتيجة مسبقة. لهدا كان ينصح فرونسييس بيكون العالم بأن يترك الأشياء تسجل حقائقها دون أن تعطى لها. و كان أستاذ كلود برنارد ينصحه قائلا : " أترك عباءتك و خيالك عند باب المختبر ". و يؤكد هو نفسه " إن الحادث الذي يلاحظه الباحث ملاحظة جيدة تغنيه عن سائر الأفكار ".
أما جون ستيوارت ميل فكان يقول : " إن الطبيعة كتاب مفتوح و لإدراك القوانين التي تتحكم فيها عليك أن تطلق العنان لحواسك أما عقلك فلا ". و في نفس السياق يؤكد قائلا : " إنني أعلم أن الحقيقة توجد في الأشياء لا في العقل الذي يصدر أحكامه عليها ". هدا ما دفع به إلى الاستعانة ببعض الطرق الاستقرائية، التي تمكن الباحث من التقيد بالواقع دون أن يسبح بخياله في ما وراء الواقع، و من فهم الظاهرة و الوقوف على علاقاتها السببية، دون الخروج عن الطابع الحسي للظاهرة، و من أهم هده الطرق : طريقة التلازم في الحضور، طريقة البواقي ...
إذن إدا اقتدى العالم ببعض هده الطرق، فإنه لا شك يقف على فهم الظاهرة بدون أن يكلف نفسه عناء تجاوز حدوث الظاهرة في طبيعتها الحسية، أي دون اللجوء إلى الافتراض التي تقودنا عن طريق الاستنتاج العقلي إلى حقائق ميتافيزيقية.
مناقشة : 
إن التجريبيين ينكرون أن تكون لمبادرة العقل دخل في إعداد المعرفة العلمية، لكن الواقع يؤكد أن المنهج الاستقرائي و قواعده التي يعتمد عليها الحسيين لا يمكن أن نعتبره منهجا علميا، فخطئ الحسيين الرئيسي هو اعتقادهم أن السبب هو حادث في حين أن الأسباب بالمعنى العلمي للكلمة هي العلاقة الحقيقية التي تحكم الظواهر، فتلازم الذي يقوم عليه الاستقراء أي ربط حادث بحادث أخر للوقوف على علاقاتها السببية لا يتجاوز حدود الملاحظة العامية، فالربط مثلا بين ظاهرة الرعد و ظاهرة البرق ربطا سببي لا يعد تفسيرا علميا للظاهرة، لأن كل من الرعد و البرق معلولين لعلة سابقة، هدا من جهة و من جهة أخرى، اقتصارهم على ما يظهر من الأشياء فحين انه لا علم إلا بما هو خفي كما يقول باشلار علما على أن الطبيعة لا تكشف عن نفسها. و إن الاستدلال التجريبي الذي يكشف عنه جون ستيوارت ميل يغفل دور العقل مع أن العقل هو الأداة التي نكشف بها عن العلاقات القائمة بين الأشياء.
الموقف الثاني :
يذهب أنصار الاتجاه العقلي إلى أن الفرضية كفكرة تسبق التجربة أمر ضروري في البحث العلمي، لأن الفرضية هي مجهود عقلي، يستهدف إيجاد حل يخلص الباحث من التناقض الذي طرحته الظاهرة المشكلة، كما أنها تساعده على تصور الأسلوب أو الطريقة التي ينبغي عليه استعمالها للقيام بالتجربة.
إن التجربة ليست مجرد خبط عشواء، بل هي عملية منظمة مخططة و مقصودة، تستهدف إثبات الفرضية ذاتها، إن نتائج العلم ترجع إلى تأثير العقل أكثر مما ترجع إلى تأثير الأشياء، فقوانين الطبيعة من ابتكار الباحث و لو كانت غير دلك لكانت نهائية و التاريخ يكشف تطورها إلى درجة إعادة النظر فيها، و هو نفس ما حدثنا به باشلار : " ليس هناك ما هو معطى و لا يوجد إلا ما هو مبني ".
و من أهم المناصرين للفرضية كخطوة ضرورية في المنهج التجريبي، الفيزيولوجي الفرنسي كلود برنارد الذي يؤكد على اعتراف باشلار، فالطبيعة لا تكشف عن نفسها بنفسها من خلال مظاهرها الخارجية، بل هي في حاجة ماسة لنشاط الفكر، لأن الحوادث في غياب الفرضية تبقى منعزلة و خالية من الروابط العقلية المنطقية، و عندئذ تكون غير مفهومة، فإذا كان الإدراك الحسي قادرا على ملاحظة الحوادث، فإنه غير قادر على إدراك العلاقات المجردة القائمة بينها و هدا ما يستدعي بالضرورة تدخل العقل للكشف عنها.
على هدا الأساس كل من يدعي أن الملاحظة و التجربة تكفيان للوصول إلى المعرفة العلمية ، هو بعيد عن أصل العلم و قد عبر عن هدا برنارد قائلا : " الفكرة هي مبدأ كل برهنة و كل اختراع و إليها ترجع كل مادة ".و في نفس السياق يواصل " إن الفرضية نقطة انطلاق ضرورية لكل استدلال تجريبيو لولاها ما أمكن القيام بأي استقصاء و لا الوقوف على أي شيء ".
أما الفرنسي بوانكاريه يؤكد من جهته أن التجربة بدون فكرة سابقة غير ممكنة، لأنه سيجعل كل تجربة عقيمة، دلك لأن الملاحظة الخالصة و التجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم، مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها الباحث في عمله تكون من بناء العقل و ليست بتأثير من الأشياء الملاحظة و في هدا الصدد يقول بوانكاريه : " إن العلم يتألف من الحوادث و لكن الحوادث و حدها لا تكفي، فكما أن كومة الحجارة ليست بيتا كذلك اجتماع الحوادث دون ترتيب ليس علما، لهدا الفكرة لا تخرج من الحوادث بل تستخرج منها و هدا لا يتم إلا بتأثير العقل العلمي و خياله . 
إذن لا يجب الانتقاص من قيمة الفرضية أو الرغبة في الاستغناء عنها، فبدون الفكرة لا يحصل الإدراك و نسبتها إلى المنهج التجريبي كنسبة حبة قمح إلى التربة و إدا كانت التربة و حدها لا تتمر فكذلك المنهج الخالي من الفرضية. 
مناقشة :
إدا صح ما جاء في الموقف المتأخر، هدا لا يعني أن أي فكرة يمكن أن تكون فرضية مقبولة، إذ تم شروط إدا لم تتوفر في الفكرة لا يمكن اعتبارها فرضية علمية، كما أننا في بعض الأحيان نكتشف أشياء بحته دون أن يكون لنا فرض من الفروض و هدا ما حدث لغاليلي، حينما اكتشف أقمار للمشتري بواسطة المنظار الفلكي.
تركيب و استنتاج :
و مع دلك لا يمكن إنكار دور الفرضية أو استبعاد أثرها في مجال التفكير عامة، إذ بدون إعمال الفكر في مرحلة المشاهدة و التجريب و بالاستعانة بقواعد التفكير المنطقي السليم و بعض قواعد الاستدلال الرياضي، يستحيل وضع قانون علمي، و إدا كان العالم قد اهتدى إلى بعض الحقائق من خلال التجربة، فإن هناك حقائق أخرى أستخلصها بطرق رياضية بحت، لهدا يقول باشلار في شأن التجربة و العقلانية في البحث العلمي بأنهما مرتبطتان برابط غريب أكثر شدة من دلك الذي يربط اللذة بالألم، هدا معناه أن الفرضية العلمية ما هي في حقيقتها إلا تعبير عن الجدل القائم بين الفكر و الواقع. 
خاتمة :
نخلص في نهاية إلى أن العلم يتأسس اليوم على أسس جديدة تجاوزت فكرة " الكائن " أو " المعطى " نحو " المبني " " المنشئ "
NameEmailMessage