الحواضر الاسلامية ودورها في
الاشعاع العلمي بين الغرب الاسلامي و
الشرق الاسلامي
مقدمة:
اهتمت الدولة الإسلامية التي
أنشأها النبي محمد
صلى الله عليه و سلم واستمرت
تحت مسمى الخلافة في الفترات الأموية والعباسية بالعلوم والمدنية
كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة
تمزج بين العقل والروح فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة والتي كانت عبارة عن
مجرد إمبراطوريات ليس لها أساس من علم ودين. فالإسلام كدين
عالمي يحض على طلب العلم ويعتبرهُ فريضة على كل مسلم ومسلمة ، لتنهض أممه
وشعوبه. فأي علم مقبول باستثناء العلم الذي يخالف قواعد الإسلام ونواهيه . والإسلام يكرم العلماء ويجعلهم ورثة الأنبياء. وتتميز الحضارة
الإسلامية بالتوحيد
والتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما
لأتخرج عن نطاق القواعد الإسلامية . لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام.
وكانت الفلسفة يخضعها الفلاسفة
المسلمون للقواعد الأصولية مما أظهر علم الكلام الذي يعتبر علماً في الإ لهيات.
فترجمت أعمالها في أوروبا وكان
له تأثيره في ظهور الفلسفة الحديثة وتحرير العلم
من الكهنوت الكنسي فيما بعد. مما حقق لأوربا ظهور عصر النهضة بها.
لهذا لما دخل الإسلام هذه
الشعوب لم يضعها في بيات حضاري ولكنه أخذ بها ووضعها على المضمار الحضاري لتركض
فيه بلا جامح بها أو كابح لها. وكانت مشاعل هذه الحضارة الفتية تبدد ظلمات الجهل
وتنير للبشرية طريقها من خلال التمدن الإسلامي. فبينما كانت الحضارة الإسلامية
تموج بديار الإسلام من الأندلس غربا
لتخوم الصين شرقا في عهد الدولة
الاموية وكانت أوروبا وبقية
أنحاء المعمورة تعيش في جهل وظلام حضاري.
الحضارة
الإسلاميّة
تُعرف الحضارة الإسلاميّة على أنها حضارة ناتجة
عن تفاعل الشّعوب وثقافاتهم التي دخلت تحت راية الإسلام، سواء كانت تلك الشّعوب
مؤمنةً بالإسلام أو منتسبةً له، أو مصدّقة ومعتقدة به. وللحضارة الإسلاميّة نوعان؛
النّوع الأول وهو ما يُعرف بحضارة الإبداع والخلق، وهي حضارةٌ إسلاميّةٌ أصيلةٌ،
يعد الدّين الإسلامي مصدرها الوحيد، أما النّوع الثّاني وهو ما يطلق عليه اسم
حضارة الإحياء والبعث، والّتي قام المسلمون فيها بتحسين وتطوير الفكر البشري عن
طريق تجاربهم الّتي قاموا بها[1]
والحضارة
الإسلاميّة هي الحضارة الوحيدة الّتي أقامها دينٌ واحدٌ، إلّا أنّها كانت موجهة
لجميع الأديان، كما أن الحضارة الإسلاميّة جزءٌ من سلسلة حضاراتٍ مختلفة، فقد
سبقتها حضاراتٌ كثيرةٌ وتبعتها مجموعة من الحضارات، وقد قدمت الحضارة الإسلاميّة
خبرات كثيرةً للبشريّة في المجالات العلميّة والفنيّة، إضافةً إلى تطوّراتٍ في
مجال العمارة
بداية الحضارة الإسلاميّة كانت منذ
عهد النّبوّة (1- 11هـ)، واستمرّت الحضارة الإسلاميّة في تطوّرها وازدهارها في عهد
الخلفاء الرّاشدين (11- 40هـ)، وكان للدوّلة الأمويّة (41 - 132هـ) آثارٌ واضحةٌ
في تطور وازدهار الحضارة الإسلاميّة وتوسّعها في إفريقيا والأندلس (البرتغال،وجنوب
فرنسا، وإسبانيا)، وحتّى العصر العباسي (132- 656هـ)، وعصر المماليك (648- 922هـ)،
وكذلك العهد العثماني، فقد استمرّت الحضارة الإسلاميّة بالتّوسّع واستمرّ تأثيرها
في شتّى بقاع الأرض.
وقد قامت الحضارة
الإسلاميّة على مجموعةٍ من الأسس أهمّها:[2]
-
عقيدة التّوحيد: قامت الحضارة الإسلاميّة على عقيدة التّوحيد
الّتي تعني أنّ العبادة تكون لله وحده دون الإشراك بأيٍ من مخلوقاته.
-
العدل: اهتمّ الإسلام بالعدل وهذا ما جاء في نصوص من القرآن
الكريم والسّنة النبويّة.
-
العلم: أعاد الإسلام ترتيب المفاهيم في العقل الإنساني، وحثّ
النّاس على طلب العلم، لما له من أثرٍ في بناء وازدهار الحضارة الإسلاميّة.
-
الأخلاق الفاضلة: للإسلام دستورٌ شاملٌ في التّعامل وتربية
الأفراد، وهذا الدّستور هو القرآن الكريم ففيه نجد كل ما يخص تربية الأفراد
والجماعات في جميع المجالات.
-
العمل: لأنّ العمل هو الّذي يبني الحضارات فقد حثّ الإسلام على
العمل، ولهذا فإنّ الدّين الإسلامي هو دين عمليٌ.
الحضارة
الإسلامية في بلاد المغرب
بلاد المغرب أو
شمال إفريقيا
يرادف لفظ أو مصطلح "المغرب" اصطلاح "شمال
إفريقيا"، والذي استعمله الجغرافيون والمؤرِّخون عند الحديث عن المناطق التي
تمتد من الحدود الغربية لمصر، وحتى شواطئ المحيط الأطلسي، وكانت بلاد المغرب
الأدنى تضم برقة، وطرابلس وتمتد غربًا حتى بجاية أو تاهرت، وقاعدتها مدينة
القيروان. أما بلاد المغرب الأوسط فتضم المنطقة الممتدة من تاهرت وحتى وادي ملوية
وجبال تازة غربًا، وقاعدتها تلمسان وجزائر بني مزغنة. وأما المغرب الأقصى فيمتد من
وادي ملوية وحتى مدينة أسفى على المحيط الأطلسي وجبال درن جنوبًا.
تاريخ الإسلام
في بلاد المغرب
تشتمل قصة المغرب على عدة عصور؛ إذ كانت محتلة من قِبَل الرومان
قبل الفتح الإسلامي، أما بعد ذلك فكان هـناك عصر الفتح الإسلامي، والذي امتد من
سنة (21هـ إلى سنة 98هـ)، بينما بدأ عصر الولاة من (98هـ إلى ما بين 144- 184هـ)
حسب اختلاف الولايات، ثم عصر الدول المحلية كالدولة الرستمية (160هـ إلى
296هـ)، ودولة الأدارسة (172هـ إلى 309هـ)، ودولة الأغالبة (184هـ إلى 296هـ)،
والدولة العبيدية الفاطمية (297هـ إلى 567هـ)، ثم دولة دولة بني زيرى (398هـ إلى
حوالي 540هـ)، ثم دولة المرابطين (487 إلى 558هـ)، فدولة الموحدين (513هـ إلى
609هـ)، والتي توارثت ملكها الدولة الحفصية في تونس، والدولة المرينية في المغرب
الأقصى، والدولة الزيانية في الجزائر والتي ألحقت بالخلافة العثمانية، وكانت
نهايتها في 962هـ، حتى وقعت الدول المغربية تحت الاحتلال الأجنبي في القرن التاسع
عشر.[3]
تطور العلوم ببلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي
كان الفتح الإسلامي لبلاد المغرب هـو المنبع الأساسي للحياة العلمية فيها، وكان
مركز إشعاع العلم في تلك الحقبة المبكرة بل فيما تلاها من أزمنة هـو مدينة
القيروان، التي قال فيها صاحب المعالم: "أما القيروان فهي البلد الأعظم والمصر
المخصوص بالشرف الأقدم، قاعدة الإسلام والمسلمين بالمغرب، وقطرهم الأفخر، الذي
أصبح لسان الدهر عن فضله يعرب، وبشرفه يغرب، قرارة الدين والإيمان، والأرض المطهرة
من رجس الكافرين وعبادة الأوثان، قبلتها أول قبلة رسمت في بلاد المغرب، وسجد لله
فيها سرا وعلانية، وناهيك بأرض كانت منازل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومحط
رحالهم".
ثم كانت نقطة
الانطلاقة بالقيروان إنشاء جامع القيروان الذي كان مسرحا لتدريس العلم على يد
الصحابة والتابعين الذين قدموا مع عقبة بن نافع، ومنهم عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما الذي روى عنه يزيد بن قاسط الإفريقي، وميسرة الزرودي وجاء قوم إليه وهو
بإفريقية فلما أرادوا فراقه قالوا: "زودنا منك حديثا ننتفع به"، ولا
يخفى تضلع ابن عمر في التفسير واهتمامه به.
وقد قام عقبة
ببناء عدة مساجد بالمغربين الأقصى والأوسط، والتي كانت بلا شك مراكز تعليمية وترك
صاحبه شاكرا في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام، وقد وصل عدد المساجد
بالقيروان وغيرها في عصر ازدهارها ثلاثمائة مسجد، ثم جاء بعده حسان بن النعمان
الذي خصص ثلاثة عشر فقيها من التابعين، ليعلم البربر العربية والفقه ومبادئ
الإسلام.
وثبت أن عكرمة
مولى ابن عباس لم يدخل إفريقية غازيا، وإنما دخلها لنشر العلم وكانت دروسه في
الحديث والتفسير في جامع عقبة في مجلس بمؤخرة الجامع يقصده الطلاب فيه.
ثم ما كان من
موسى بن نصير حيث أمر العرب أن يعلموا البربر القرآن، وأن يفقهوهم في الدين وترك
في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيها لتعليم أهله، وقد بدأت الكتاتيب لتعليم النشء
المسلم منذ عهد مبكر في تلك المنطقة الإسلامية الجديدة، فعن غياث بن شبيب أنه قال:
"كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة
بالقيروان ويسلم علينا ونحن في الكتاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه".
وكانوا يتعلمون
في تلك الكتاتيب الحديث الشريف والسنن بالإضافة لحفظ القرآن وتعلم إعرابه وترتيله
والشكل والهجاء، والخط الحسن والدعاء والتدرب على الخطابة، وتعلم الوضوء والصلاة.[4]
تعدد مراكز العلم وانتشار العلماء:
ولم تقتصر مراكز العلم في بلاد المغرب على القيروان فقط، بل تعددت مراكز العلم،
فإلى جانب جامع عقبة بالقيروان كان هـناك جامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين
بفاس، كما وقد اشتهر الولاة والأمراء بحذقهم للعلوم واللغات والفنون والآداب، مثل:
إبراهيم بن الأغلب الذي أجاد الشعر والبلاغة، والمعز لدين الله العبيدي الفاطمي
الذي تكلم عدة لغات كالبربرية والرومية والسودانية.
وبرز في
إفريقية العديد من العلماء المتخرجين من جامعة القيروان، فاشتهر في اللغة والأدب:
ابن الطرماح وأحمد اللؤلؤي ومحمد بن جعفر القزاز، وفي الفلسفة: أبو بكر القمودي
وسعيد بن الحداد، كما تأسست بالقيروان مدرسة للطب واشتهر فيها عدد من الأطباء،
مثل: إسحاق بن عمران ومحمد بن الجزار وخاصة أحمد بن الجزار صاحب كتاب "زاد
المسافر"
كما تطور علم
الجغرافيا واستغل في أغراض تطبيقية كالتجارة، وعلم التاريخ والأنساب وقد اشتهر فيه
ابن حيان وابن حزم القرطبي والقاضي النعمان.
وقد ساهم المغرب الإسلامي مساهمة فعالة في إثراء الحضارة الإسلامية خاصة في المجال
الفكري فبرز العديد من المفكرين ومن أبرزهم ابن رشد الفقيه والقاضي والفيلسوف
والطبيب، صاحب: "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين الشريعة
والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"
و"الكليات في الطب"، والذي شرح فلسفة أرسطو ونقلها إلى الغرب ولخص
مؤلفات جالينوس في الطب وأقبل الغرب المسيحي على مؤلفاته باعتباره أبرز مفكري
التيار العقلاني داخل الفكر العربي الإسلامي ومرجعا هـاما في الفكر الأوروبي، فشكَّل
بذلك نقطة تواصل وتفاعل بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية.
كما أفرزت الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عالما اشتهر بمؤلفاته الجغرافية رغم انه
كتب في علم النبات والأدوية وهو الإدريسي، صاحب "نزهة المشتاق في اختراق
الآفاق" و"الأدوية المفردة". وقد أسس الإدريسي جغرافيته على مفاهيم
علمية صحيحة أهمها كروية الأرض ووجود خط الاستواء والأقاليم المناخية وتأثير
الجبال في تكييف المناخ وتوجيه الرياح ونزول الأمطار، كما أنجز الإدريسي خريطة
العالم المعروف في ذلك الوقت على شكل كروي وذلك قبل أن يثبت العلم الحديث صحة هـذا
الشكل.
وتجاوز الإشعاع
العلمي لبلاد المغرب حدود المنطقة الإفريقية حيث انتقل الإدريسي إلى جزيرة
صقلية وعاش في قصر ملكها روجار الثاني الذي كلفه بتأليف كتاب شامل في وصف
مملكته والبلدان المعروفة في ذلك العهد.
ولم يقتصر دور
الحضارة العربية الإسلامية ببلاد المغرب على العلوم والثقافة، بل تجاوز ذلك إلى
الفنون والعمران بما جعله قادرا على الإسهام في تطوير التراث الإنساني وإثرائه
بإضافات بناءة كانت منطلقا للنهضة الأوروبية الحديثة.
ازدهار فن العمارة الإسلامية ببلاد المغرب
شهد المغرب الإسلامي نهضة عمرانية لم يسبق لها مثيل، تميزت بتعدد المدن إلى حد
بروز شبكة حضرية متكونة من مدن كبرى ووسطى وصغرى، واشتهرت المدن الهامة بتنوع
خصوصياتها المعمارية كالجوامع والقصور المتميزة بأشكالها الفنية المزخرفة.[5]
أ – تعدد المدن الكبرى بالغرب الإسلامي
تأسست بالغرب الإسلامي شبكة حضرية متمحورة حول المدن الكبرى التي أسسها الأمراء
واتخذوها عواصم لدولهم وقواعد لجيوشهم، مثل: القيروان وفاس وسجلماسة وتيارت
(تاهرت) وقرطبة بالأندلس، ونشأت المدن المتوسطة والصغرى على طول المسالك والطرقات
التي اتجهت نحو المشرق وباتجاه بلاد السودان جنوبا.
- مدينة
القيروان: تم اختيار موضع القيروان على سهل فسيح، حيث شيدت على أنقاض حصن بيزنطي
من طرف عقبة بن نافع. وكانت القيروان في موقع حصين بعيدة عن البحر لتفادي غزوات
البيزنطيين، وهي في سهل خصب تتوفر به المراعي وعلى طريق المسالك التجارية الرابطة
بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب. وفي عهد الخليفة هـشام بن عبد الملك تم
تجهيز المدينة بفسقيات وهي مواجل كبيرة الحجم تقع شمال المدينة وجنوبها تجمع بها
المياه لحاجة السكان، كما توسعت أسواقها وأحيطت بسور يبلغ عرضه خمسة أمتار، وامتدت
المدينة خاصة في العهد الأغلبي فشيدت القصور خاصة في العباسية ورقَّادة وصبرة
المنصورية، وازدهرت صناعاتها وقصدها الناس من كل مكان للتعلم والتجارة والإقامة
حتى أصبحت من أهم الحواضر الإسلامية.
- مدينة
المهدية: تقع المهدية على الساحل الشرقي لإفريقية، أسسها عبيد الله المهدي سنة
302هــ على موقع روماني قديم يسمى جُمَّة واختارها عاصمة للدولة الفاطمية عوضا عن
القيروان. وقسم المهدي عاصمته إلى قسمين، أحدهما مقر الدولة والجامع والأسواق ودار
الصناعة والميناء المنقور في الصخر ويدعى المهدية وأحاطها بسور، والثاني لعامة
الناس ويدعى زويلة ويفصل بين المدينتين باب الفتوح. ولا تزال معالم المهدية
الفاطمية قائمة إلى يومنا هـذا شاهدة على شموخ الحضارة الإسلامية بالمغرب الإسلامي
رغم الحروب والحملات التدميرية التي تعرضت لها.
- مدينة
سجلماسة: هـي مدينة صحراوية تقع في تافيلالت تنطلق منها القوافل التجارية إلى بلاد
السودان جنوبا وإلى فاس شمالا. تأسست سجلماسة سنة 140هــ لتكون عاصمة لبني مدرار
الصفريين ومركزا تجاريا صحراويا هـاما. شيدت بها القصور والمصانع والمساجد ولها
سور يفتح بواسطة 12 بابا ولها أرباض كثيرة. وكان ازدهار سجلماسة مرتبطا بنشاط
التجارة الصحراوية حيث تراكمت إيرادات الذهب من بلاد السودان، ومرت بها القوافل
قادمة من فاس وأغمات والسوس والسودان وحققت تجارتها أرباحا طائلة.
- مدينة فاس:
أنشأها الأدارسة سنة 172هــ، وتقع أسفل جبال الأطلس الأوسط في سهل فسيح، واشتهرت
بجامع القرويين الذي يعتبر من أهم معالم المدينة إلى يومنا هـذا.
تعتبر هـذه
المدن الكبرى أمثلة معبرة عن حركة التعمير والتمدين، التي شهدها الغرب الإسلامي
بعد الفتح ولا تزال هـذه المدن قائمة إلى اليوم لتؤكد تواصل الحضارة الإسلامية
ببلاد المغرب، على عكس المدن التي شيدت زمن الفينيقيين والرومان والبيزنطيين والتي
لم يبق منها سوى بعض الآثار.
ب–تطور
فن العمارة بالمغرب الإسلامي[6]:
يبرز ازدهار الفن المعماري ببلاد المغرب من خلال العمارة الدينية والمتمثلة في
المساجد والجوامع والرباطات، والعمارة المدنية المتكونة من القصور والمنازل
والمنشآت المائية الكبرى.
- المساجد
والجوامع: شيدت المساجد والجوامع في جميع مناطق المغرب الإسلامي بالأرياف والمدن،
وهي تدل على متانة العلاقة القائمة بين السكان والدين الجديد. وكانت خطة بناء
الجوامع متشابهة حيث تكوَّن أغلبها من الصحن وقاعة الصلاة والمحراب مع تواجد
الأعمدة الرخامية والشمسيات البلورية والقباب.
ويعتبر جامع
القيروان من أهم المنشآت الدينية ببلاد المغرب، شيّد على مراحل عديدة وتم توسيعه
عدة مرات. تنقسم قاعة الصلاة إلى 17 بلاطة أعرضها البلاطة الوسطى التي تؤدي إلى
المحراب، ويقوم الجامع على أعمدة تعلوها تيجان ومسندات خشبية وحوامل عقود وعقود
تضمن الإضاءة والتهوية، ويضم الجامع قبة المحراب وقبة البهو ومنارة قاعدتها ذات
شكل مربع تعلوها قبة، أما المحراب فتغطيه لوحات رخامية تعلوها الزخارف الجصية
والخشب المذهب.
- الرباطات:
الرباط منشأة دينية وتعليمية وعسكرية تبنى على السواحل لمراقبتها من الغزوات
البحرية، وكانت الرباطات عبارة عن حصون دفاعية تتكون من عدة غرف ومسجد وتوجد أبراج
دائرية في زواياه ويحتوي كل رباط على منارة مستديرة الشكل. ومن أهم الرباطات ما
شيد على ساحل سوسة والمنستير وكذلك رباطات المدن المغربية.
- القصور:
يعتبر تشييد القصور دليلا على أوج الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الذي تحقق
خاصة للفئات الثرية المقيمة بالمدن وخاصة بالقيروان، مثل: قصر الصحن برقادة وكان
يتكون من 109 غرفة ويحيط به سور ضلعه 104 مترا. كما تعددت القصور بفاس وسجلماسة،
ولا تزال آثار هـذه القصور قائمة إلى اليوم.
وتميزت العمارة
المغربية بالزخرفة كالنقوش والعقود والأعمدة والتيجان والحنيات، وكانت هـذه
الأشكال الفنية تنحت وتنقش على الرخام والحجارة والجص والخشب إضافة إلى الرسوم
والألوان التي زيَّنت المواد الخزفية، وتكونت من أشكال طبيعية مثل ورق العنب
والبراعم وجريد النخل، إضافة على الأشكال الهندسية كالظفائر المعقدة والحروف
العربية المكتوبة بالقلم الكوفي.
أهم الحواضر الاسلامية ودورها في الاشعاع
العلمي بين الغرب الاسلامي و الشرق
الاسلامي:
لم يكن بالغريب
أن تصل الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة إلى ما وصلت إليه من تقدُّمٍ معرفيٍّ
وعلميٍّ في أوج عظمتها في العصور الوسطى؛ إذ كان الإسلام كدينٍ هو المحرِّك
والباعث لهذه الطفرة الحضاريَّة التي لم تُضاهها أيٌّ من الحضارات المعاصرة آنذاك.
تمتاز لذلك
الحضارة الإسلاميَّة بجملةٍ من المميِّزات أبرزها أنَّها حضارةٌ شاملةٌ متراكبة؛
إذ إنَّها لم تغفل عينًا عمَّا سبقها من الحضارات الأخرى التي كانت متقدِّمة في
وقتها، ولذلك فلم تنسخها؛ إنَّما استفادت من العلوم القديمة وأعادت صياغة ما
يُلائم عقيدتها منها بأسلوبٍ يتناسب مع مكانها وزمانها، وهذا بالضبط ما يتضمَّنه
مفهوم الأصالة والمعاصرة، الذي تُعاني منه مختلف مناحي الحضارة العربيَّة اليوم،
بيد أنَّ الفارق هنا هو أنَّ الحضارة الإسلاميَّة سابقًا كانت اليد العليا التي
تُملي ما تأخذ وما ترد، فيما ليس هذا هو الحال اليوم مع العمارة والحضارة
العربيَّة.
وكنتيجة لهذا
المنهج الرائد في الحضِّ على العلم ودمج العلم والدين معًا، فقد تفجَّرت طاقات
العرب المسلمين في أوج مدنيَّة وعظمة الحضارة، وتبلور عن ذلك طفرة علميَّة
وعمرانية لم يشهد العالم القديم في العصور الوسطى لها مثيلًا، ونتجت عن ذلك
مؤسَّسات عمرانيَّة كانت تعنى بشئون العلم، وقد عُبِّر عنها من خلال الدور والقصور
والمساجد والمدارس والجامعات حيث كانت تجري حلقات الدرس، وساعد في ذلك تشجيع
الأمراء والخلفاء والسلاطين، وهي من أهمِّ العوامل التي ساعدت على هذه الطفرة المتسارعة.[7]
وفي هذا الإطار
برزت مجموعة من المؤسَّسات والجامعات التي أنارت للعالم القديم ظلمات الجهل
والبيئة المبنية وما تزال منارات مضيئة إلى اليوم في تاريخ العرب والمسلمين، ومن
هذه الجامعات ومعاهد الدرس المساجد على كافَّة نشأتها في التاريخ الإسلامي؛ كون المسجد كان أوَّل
منار علمٍ للدراسة وإقامة الحلقات العلميَّة.
الحواضر
الاسلامية في الشرق الاسلامي:
المسجد الحرام بمكَّة والمسجد النبوي بالمدينة:
حيث تعلَّم المسلمون أصول دينهم وهُذِّبت
أخلاقهم ونفوسهم. كما توسَّعت حلقات
الدرس المختلفة لتدريس الفقه في العصور العباسيَّة الأولى والثانية، ويروي التاريخ
الرحلات في طلب العلم الشرعي التي كانت تشدُّ الرحال إلى المسجدين الشريفين
للتلمذة على مالك بن أنس، وكذلك في العهود الإسلاميَّة المختلفة برز دور المسجد
كجامعةٍ علميَّة.
المسجد الأقصى ببيت المقدس:
وفي ساحاته وأفنيته تُقام دروس العلم الشرعيَّة وعلوم اللغة
العربيَّة وغيره
الجامع الأموي بدمشق، وجامع
الكوفة، وجامع
المنصور ببغداد. وامتدَّ دور المسجد إلى أبعد من الجزيرة
العربيَّة وبلاد الشام مع توسُّع الفتوحات الإسلاميَّة لتشمل مصر وشمال إفريقيا
والأندلس؛ فقد أسَّس عمرو بن العاص الجامع الذي يحمل اسمه في مدينة الفسطاط جامع عمرو بن العاص، ويُشير المقريزي إلى حلقات العلم والدرس التي شهدها هذا
المسجد.
جامعة الأزهر بالقاهرة:
فلا تزال إلى اليوم منارة علمٍ وواحدةٍ من أقدم
الجامعات الإسلاميَّة المعروفة التي توافد إليها طلاب العلم من أصقاع العالم
الإسلامي القديم والمعاصر، وهناك جامع القيروان الذي بناه عقبة بن نافع، وهو من
أكبر المساجد الجامعة، الذي يُعدُّ من أوائل المساجد الجامعة على مناطق الثغور
التي أدَّت أكثر من وظيفةٍ واحدة؛ منها تعليميَّة تثقيفيَّة، ومنها حياتيَّة
إيوائيَّة كونها على مدن رباط، واستمرَّ المسجد يقوم بوظائفه الرئيسة إلى أن انتقل
التعليم الرسمي إلى جامعة الزيتونة في العام 555هـ بتونس.[8]
وكانت كل الجامعات الاسلامية في
المشرق الاسلامي منارة علم
الحواضر
الاسلامية في الغرب الاسلامي:
القيروان
القيروان
أولى المراكز العلميه في المغرب العربي، تليها قرطبة في المغرب ثم فاس في المغرب
الأقصى وكان مسجد عقبة بن نافع ومعه بقية مساجد القيروان تعقد فيه حلقات للتدريس
وانشئت مدارس جامعه اطلق عليها (دور الحكمه) واستقدم لها العلماء والفقهاء ورجال
الدعوة من الشرق.
وانشئت
في القيروان المكتبات العامة والمكتبات الملحقه بالجوامع والمدارس والزوايا، وكانت
مفتوحه للدارسين وتضم نفائس أمهات الكتاب ومن أشهر مكتبات القيروان بيت الحكمة
الذي انشأه ابراهيم الثاني الأغلبي.
ولعبت
المدارس أيضاً دوراً مهماً في رفع شأن اللغه العربيه لغة القرآن وثقافة العرب كما
لعبت دوراً في نشر الدين الإسلامي وعلومه، وتم أحياء ذكرى المولد النبوي الشريف
لأول مره في القيروان عندما استقلت تونس في عام 1956م.
أهم
المعالم البارزه في مدينة القيروان
جامع
عقبة بن نافع، وجامع حسن الثاني، ومقام الصحابي زمعة البلوي، ومقام سيدي عبيد
الغرياني، ومقام سيدي عمر العبادة، وبئر بروطة، وفسقيات الأغالبه، وجامع الأبواب
الثلاثة، والمتحف الوطني للفنون الإسلامية برقادة، وسور المدينة الذي يحتوي على
العديد من الأبواب.
جامع الزيتونة بتونس
هو
من أهمِّ مساجد المغرب والجامعات الإسلامية قاطبة، وشهرته كجامعةٍ علميَّةٍ قديمة
ماتزال تُدرَّس فيها علوم اللغة والتاريخ الإسلامي والفقه وغيرها.
وكذلك مسجد القرويِّين بالمغرب،
وهو من أقدم الجامعات الإسلامية المعروفة أيضًا، ويُقارن بالأزهر بالقاهرة، وله
أثرٌ بالغٌ في مساجد فاس كلِّها؛ إذ يُشكِّل نظامه الفريد طابعًا انتشر في كثيرٍ
من مساجد فاس ومكناس ومراكش إلى اليوم، ولعلَّ أبرز ما يُميِّز تلك الجامعة
العريقة هو النظام الذي عملت به منذ منتصف القرن السابع الهجري، وبذا كان لها
السبق عن أوربَّا بمئات السنين، وهو نظام الكراسي العلميَّة؛ أي كرسي لمادَّة
الفقه وآخر للغة وغيره للتفسير وهكذا، وشهد هذا المسجد المناظرات والحلقات العلمية
التي قادت الحضارة لتقود العالم القديم الذي كان يغطُّ في سُبَاتٍ عميقٍ آنذاك،
وحيث كانت أوربَّا تتخبَّط في ظلمات الجهل.[9]
بجاية:
كانت
بجاية العاصمة الثانية لدولة بني حماد، إحدى كبريات
الدول الإسلامية المؤثرة التي كانت إحدى دول الأمازيغ في المغرب الأوسط، ومثّلت
أول دولة أمازيغية مستقلة تحكم الجزائر بعد الفتح الإسلامي، وقد سادت الشمال
الإفريقي فترة من الزمن تجاوزت القرن.
تاريخ
المدينة لم ينته مع الحماديين،
بل تواصل إلى دولة الموحدين، فلئن كانت مراكش عاصمة لهذه الدولة التي انتشرت
أساسًا في المغرب، فقد كانت بجاية انطلاقة هذه الدولة، حيث احتضن مسجد ملالة الذي
يبعد نحو ستة أميال عن بجاية أول لقاء بين عبد المؤمن بن علي الكومي الندرومي
الجزائري، والمهدي ابن تومرت المصمودي مؤسسا الدولة الجديدة.
تلمسان:
إذا
تأملنا تاريخ تلمسان نجد أن نمو الحركة العلمية فيها كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا
بحكامها وولاتها المتعاقبين عليها، ففي عهد الأدارسة كانت العاصمة فاس المغربية،
ولم ينقل لنا التاريخ عن هذا العصر أي أثر من آثار العلم والعلماء، وفي عهد
الصنهاجيين (ابتداء من سنة 360) لم تكن تلمسان إلا مجرد مدينة صغيرة انتزعت
من يد الموالين لبني أمية، فلم تظهر فيها حركة علمية، إلا أننا نجد أن الفقيه
المحدث أحمد بن جعفر الداودي المسيلي الأصل قد استقر بتلمسان وتوفي بها سنة (401)،
ولعله كان عين هناك قاضيا من طرف الحماديين.
ولما أصبحت تلمسان تابعة لدولة المرابطين ابتداء من (472-1079م) ولمدة
67 سنة، ورغم أن عاصمتها كانت آنذاك فاس ثم مراكش، فقد اهتمت بعمران هذه المدينة
وتعميرها، فجدَّدت بناء المدينة القديمة لتلمسان –أجادير- ووسعتها، فصارت حاضرة من
الحواضر، وكانت دولة المرابطين حريصة تولية منصب القضاء لأهل العلم الأكفاء، وممن
ولي هذا المنصب في عهدهم محمد بن داود بن عطية العكي الجراوي (ت:525) ([3])،
ومن الفقهاء الذين برزوا بتلمسان في عهد المرابطين يعقوب بن حماد الأغماتي الذي
كان مدرسا بجامعها العتيق عام (523)، وعبد الله بن خليفة بن أبي عرجون (ت:534)
وعثمان ابن صاحب الصلاة (ت:542)، ومن أقام بها مدة من الأعلام الكبار في هذه المدة
يوسف بن محمد ابن النحوي المتوفي في قلعة بني حماد سنة (513)
ثم
احتلها الموحدون (539-1144) الذين جلبوا بلاء على بلاد المغرب؛ فحاربوا الفقه
المالكي وفقهاءه، ونشروا المذهب الظاهري، وفرضوا العقيدة الأشعرية على الناس فرضا،
وفتحوا الباب لغلاة التصوف في نشر مذاهبهم الضالة، وكان من أول أعمالهم في تلمسان
قتل الفقيه عثمان ابن صاحب الصلاة (ت:542)، ولم يولوا القضاء من الفقهاء إلا من
كان له باع في الأصول -على طريقتهم الكلامية- فكان منهم أبو الحسن علي بن عبد
الرحمن المعروف ابن أبي قنون (ت:577)، ومحمد بن عبد الحق اليعفري (ت:625)، ومحمد
بن عبد الله بن مروان الظاهري الذي ولي قضاء تلمسان ثم استدعي لتولي القضاء في
مراكش وتوفي بها عام 601 [10]
نافس
ملوك بني زيان في تقريب العلماء والأدباء وإكرامهم غاية الإكرام وترحيبهم بمن وفد
إليهم من غير تلمسان، وتنافسوا في بناء المدارس التي لا يزال كثير من آثارها قائما
إلى يومنا، تلك المدارس التي عينوا بها علماء أكفاء يقومون على التدريس فيها مختلف
العلوم الشرعية، وزودوها بمرافق تخدم طلبة العلم الذي ضمن لهم فيها المأوى والمطعم
والملبس.
ومن الناس من يرى أن ذلك كان بدافع التباهي وتخليد الذكر، أو منافسة ملوك البلاط
الحفصي والبلاط المريني، ومهما يكن الأمر فإن هؤلاء الملوك قد عرفوا الطريق الذي
يُكسبهم ثقة شعوبهم، واهتدوا إلى العمل النافع الذي يُخلد ذكرهم، وهو في الواقع
نفسه زاد أخروي ينالون ثوابه بحسب درجة إخلاصهم فيه.
حاضرة فاس[11]:
وفيما
يخص التسمية فقد ذكر في المصادر أن إدريس الابن كان يشارك العمال في حفر الأساسات
بفأس من ذهب صنعه له بعض عماله، فسميت المدينة نسبة لذلك الفأس. وذكر أيضا أنه لما
شرع العمال في البناء وجدوا فأسا كبيرا قديما، فسميت المدينة به وأضيفت إليه، وذكر
كذلك أنه لما تم البناء قيل لإدريس الابن كيف تسمي المدينة؟ فقال أسميها باسم
المدينة التي كانت قبلها في موضعها غير أنني أقلبه، وكان راهب قد أخبره عند بدء
البناء أنه كان بهذا الموضع مدينة اسمها ساف.
أما
جامع القرويين فشكل ولا زال معلمة فاس الأولى، وعنوانها الأبرز في العالم كله،
والقلب النابض للمغرب، ومفخرة جميع المغاربة حتى قال فيه الدكتور المؤرخ عبد
الهادي التازي: “وما المغرب إن لم يكن القرويين” جامع أدخل المدينة كتاب
“Guinness” للأرقام
القياسية كأول جامعة في العالم لا زال التدريس بها مستمرا منذ تأسيسها سنة 857م
على يد فاطمة الفهرية التونسية إلى يومنا هذا.
كان
القرويين المركز الفكري والثقافي والعلمي الأول في الغرب الإسلامي لقرون مضت، حيث
استقطب إليه – سواء للتعليم أو التعلم – كبار علماء المسلمين مغاربة ومشارقة
وأندلسيين، فقد درّس فيه أبو عمران الفاسي فقيه عصره، وابن البناء المراكشي أشهر
رياضي في زمانه، وابن العربي صاحب المؤلفات الغزيرة، وابن باجة وكان ممن نبغ في
علوم كثيرة منها اللغة العربية والطب. كما زاره الشريف الإدريسي أبو الجغرافيا ومكث
فيه مدة، وكذلك زاره الطبيب ابن زهر مرات عديدة، ودون النحوي ابن آجروم كتابه
المعروف في النحو فيه. ومن العلماء الذين أقاموا بفاس ودرسوا بجامعتها ابن خلدون
المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع، ولسان الدين بن الخطيب، وابن عربي الحكيم وابن مرزوق
وغيرهم.[12]
وبما
أن الدراسة بالقرويين لم تقتصر على العلوم الشرعية، بل شملت كذلك العلوم التجريبية
كالطب والفلك والرياضيات، فقد قصدها علماء من غير المسلمين، حيث درس فيها سيلفستر
الثاني الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، ويقال أنه هو من أدخل بعد
رجوعه إلى أوروبا الأعداد العربية. كما أن موسى بن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي
الذي كان يقول فيه اليهود “لم يأت في اليهود بعد موسى مثل موسى” قضى فيها بضع
سنوات دارسا ومدرسا.
جامعة قرطبة
جامع
قرطبة الذي شيَّده عبد الرحمن الداخل ببلاد الأندلس، فقد
اشتهر منذ إنشائه بتفوق العلم والثقافة، وكان يضرب المثل بأهالي قرطبة في اقتناء
الكتب والإقبال على العلوم والتعلُّم.
لم يقتصر دور مسجد قرطبة على
العبادة فقط، وإنما كان أيضًا جامعة علمية تُعد من أشهر جامعات العالم آنذاك،
وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية،
وعلى مدى قرون.
وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم
الأساتذة.. وكان طلاب العلم يفدون إليها من الشرق والغرب على السواء، مسلمين كانوا
أو غير مسلمين.
وقد احتلت حلقات الدرس والعلم
أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرغوا للدرس والتأليف، وكذلك أيضًا
خصصت أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين.[13]
غرناطة حاضرة العلم في الأندلس
الأمر الذي أثرى الحياة العلمية بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة،
واستطاعت قرطبة أن تخرج للمسلمين وللعالم الجم الخفير من العلماء، وفي جميع مجالات
العلوم.
ومهما
يكن من شيءٍ فإنَّ أشهر ما عرفته الأندلس من مدارس فهي المدرسة التي بناها السلطان
أبو الحجاج التي جاءت "نسيجة وحدها، بهجة وصدرًا وظرفًا وفخامة"، وغدت
إلى جانب المسجد الأعظم الجامع "أنوه مواضع التدريس بغرناطة"، أغنت طلاب
العلم والهدى عن الارتحال والظعن في طلبهما، وهو ما عبَّرت عنه أبيات الشعر التي
كُتبت على بابها، وهذه المزايا نفسها كانت هي التى أوحت لشاعرٍ آخر قوله فيها، وقد
تصدَّر للإقراء بهذه المدرسة أعلام المشيخة العلمية بالحضرة، وهم الذين يُنوِّه
بهم الشاعر على لسانها، وهؤلاء المنوَّه بهم من شيوخ العلم في هذه المدرسة كانوا
جميعًا من جهابذة الأساتيذ وفطاحلة العلماء أمثال: الفقيه أبي محمد بن جزي (ت:
757هـ) الذي كان في دروسه بها "يعرب فيغرب يباهى به على المشرق
والمغرب"، والفقيه أبي القاسم فرج بن لب (ت: 780هـ) الذي كان بقيامه على علومٍ
عديدةٍ ومشاركته في فنونٍ مختلفة "لتدريسها ملازمًا وعلى نهج تبيانها
جاريًا"، ويحيى بن أحمد بن هذيل التجيبي (ت: 753هـ) أقرأ بالمدرسة الأصول
والفرائض والطب،
ولعله أقرأ غير هذه مما كان يجيد من علوم مثل الهندسة والهيئة
والحساب، وأبي عبدالله محمد الجعدالة (ت: 897هـ) وكان إلى علمه الواسع بالفقه يقوم
على علوم العربية خير قيام، وكان يتولَّى بالمدرسة إقراء كتاب الإيضاح لأبي علي
الفارسي.
ومن
غير الغرناطيين محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني (ت: 771هـ) عُرِفَ ببراعته في
الفقه واتِّساعه في الرواية، وقد أسمع طلبة العلم في المدرسة من كتب الحديث
موطأ الإمام مالك وصحيح البخاري،
ومنصور بن علي بن عبدالله الزواوي كان على معرفة بالعلوم العقلية إلى جانب العلوم
النقلية، وقد تصدَّر بالمدرسة لإسماع بعض ما كان يُتقن من علوم كالأصول والجدل
والفقه والتفسير.
فعلى
أيدي هؤلاء الأساتذة والشيوخ وأمثالهم تخرَّج في هذه المدرسة وتدرَّب وأُجيز طلاب
العلم في غرناطة وفي غير غرناطة ممَّن كانوا يفدون عليها من مختلف الآفاق، وعلى
أيديهم استمرَّت الحركة التعليميَّة والتربويَّة والعلميَّة نشطة، على الرغم ممَّا
كان يعرفه القُطْر من أخطار تتهدَّد وجوده وتتربَّص به الدوائر.
تلك
هي أمكنة التعليم التي عرفتها الأندلس، وفيها تلقَّى أبناؤها مختلف المعارف
والعلوم والفنون، ومنها تخرَّج مشاهير علمائهم وفقهائهم وأدبائهم، وقد وعوا
مضامين الخطاب التربوي ومقاصده
الذي لقنوه من قبل مدرسيهم وشيوخهم فكان له آثاره على علمهم وعملهم.
خاتمة:
كان
للحواضر الاسلامية العلمية سواء في المشرق أو المغرب الاسلامي الأثر البالغ في
انتشار العلم سواء في الشرق أو الغرب في كل العالم و كان لها الفضل في ظهور
الحضارة الغربية اليوم حيث أخذت مناهجها العلمية من الجامعات الاسلامية و اتخذت من
مناهج التدريس الاسلامية انطلاقة لها .
من
أسباب ازدهار الحركة العلميَّة في الدولة الإسلامية: انتشار المجالس التي تَضُم
العلماء في القصور والدور والمساجد؛ حيث يَتناظرون فيها في فروع العلم المختلفة،
وقد حرص الخلفاء على إقامة هذه المجالس، ومما لا شك فيه أن هذه المناظرات أدَّت
إلى رواج الحياة الثقافية، وأن المناظرة إذا كانت تتم أمام خليفة أو أحد كبار رجال
الدولة، فإن المشتركين فيها يَحرِصون على إتقان مادتهم العلمية، حتى يدعم رأيه
بالأسانيد العلميَّة المعقولة والمقبولة، ويحظى بتقدير الحاضرين، وكان للخلافات في
الرأي أثر كبير في تقدُّم الحركة العلمية؛ ذلك أنها شجَّعتِ العلماء على مواصلة
الدرس والبحث.
ويرتبط
بظهور الحركة العلميَّة ونشاطها في الدولة الإسلامية المحافظة على الكتب، ومن هنا
أقيمت المكتبات في الدولة، ومن أهمها بيت الحكمة الذي كان يَضُم كتبًا في علوم
مختلفة، وأضاف الخلفاء إلى بيت الحكمة كتبًا بلغات متعدِّدة، مِثل العربية
والفارسية والسريانية واليونانية واللاتينية وبعض اللغات الهندية.
أنفق
الخلفاء أموالاً طائلة لتزويد بيت الحكمة بالكتب القيِّمة، ويعمل في بيت الحكمة
علماء تنوَّعت ثقافتهم ومعارفهم، وكان العلماء في الدولة الإسلامية يُودِعون نسخًا
من مؤلفاتهم في بيت الحكمة، ويلحق ببيت الحكمة علماء تنوَّعت ثقافتهم، وصاحب بيت
الحكمة يُشرِف على العاملين فيه، وعليه أن يرتِّبَ الكتبَ ويُفهرِسها ويُصنِّفها
ويُشرِف على النساخ والناسخ، ويَنسخ ما يُطلَب منه نظير أجر، وعليه أن يُرتِّب
أوراقَ كلِّ نسخة بعد جمعها أو إصلاح ما قد يظهر فيها من أخطاء، والخليفة يُعيِّن
المترجمين في بيت الحكمة، ويُعيِّن لهم رئيسًا يتفقَّد أعمالهم، ويُراجعها
ويُصحِّحها؛ وبذلك أسهم بيت الحكمة في ترجمة كتب في علوم مختلفة ولغات متعددة،
وكان المترجم يُملي الكتابَ الذي ترجمه على عدد من النساخ حتى تتعدَّد نسخُ الكتاب
الواحد، وتُجلَّد هذه الكتب وتُودَع نُسخ منها في بيت الحكمة حيث تتاح الفرصة
للقراء للاطلاع عليها.
[1] عبد العزيز التويجري،
العالم الإسلامي في عصر العولمة، عمان -الاردن: دار الشروق، صفحة 137
[2] ياسر تاج الدين
(26-8-2015)، "تعريف الحضارة وأسسها في الإسلام"، www.alukah.net،
[3] ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب. https://www.islamstory.com/
[4] مصطفى السباعي ،
"روائع الحضارة الإسلامية. دمشق سوريا، ص 43.
[5] راغب السرجاني ، "فن
العمارة في الحضارة الإسلامية، القاهرة، جمهورية مصر العربية
2010، ص 112.
[6] المرجع السابق، ص 124-131.
[7] www. islamstory.com
[8] عبد العزيز التويجري، العالم الإسلامي في
عصر العولمة، عمان -الاردن: دار الشروق، صفحة 137
[9] عبد العزيز الخياط، "الحضارة الغربية
والحضارة الإسلامية"،
[10] طارق أشقر (18-3-2013)، "دعوة
لاستلهام إنجازات الحضارة
مقال منشور على موقع: https://mawdoo3.com/
[12] عبد العزيز الخياط، "الحضارة الغربية
والحضارة الإسلامية"،
[13] حسن الوراكلي:
الخطاب التربوي عند الأندلسيين ، تونس ، 2009، ص 112