JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->

التنظيمات العسكرية للدولة الزيانية واثرها في رد الاعتداءات المرينية (1554-1235/962-633)

خط المقالة

 

الصراع الزياني المريني و أسبابه.

المطلب الأول: نشأة و عوامل الصراع الزياني المريني.

دخل بنو عبد الواد وبني مرين مرحلة جديدة بعدما أصبح لهما كيان سياسي وقوة عسكرية يحتدون بها في المغرب وقد شهدت هذه المرحلة العديد من الصراعات والمؤامرات ما بين هاتين الدولتين وكذا القبائل المجاورة، فكانت بداية ظهور الخلاف أو الصراع الزياني المريني هو الحقد المريني على عبد الواد ورثة الموحدين على المغرب الأوسط.

حيث نجد أن الدولة الزيانية عمرت أكثر من ثلاث قرون (962ھ/1555م) ولكن حياتها كلها كانت صراعا مستميتا وطويلا ضد عدة قوى متصارعة متطاحنة عليها، وتتمثل هذه القوى في رغبة بني مرين لبسط نفوذهم على أكبر مساحة من المغرب، بالإضافة إلى الجوار في الملك والمنافسة في الاستقلال برئاسة زناتة[1]، محاولين في ذلك السيطرة عليها وإزالتها من الوجود[2].

ومن خلال دراستنا لكتاب تاريخ الدولة الزيانية للمؤرخ ابن أحمد نجد يرى أن أطماع الدولة المرينية تكمن في أهمية موقع تلمسان الذي يقول عنه المؤرخ الجغرافي الفرنسي جوتيه: "إنه يبدو أن الأوضاع الجغرافية استدعت أن تقوم في إقليم غربي المغرب الأوسط قاعدة إلى الغرب من مدينة الجزائر، لأن الطريق الذي يخترق التلول في منطقة الخانق الكبير الذي يمتد من توات إلى روسيون[3] والخط الممتد من تلمسان إلى مصب نهر التافنا..."[4]

وعليه فإن المؤرخ بن خلدون يقول: "أنها أصبحت قاعدة للمغرب الأوسط الشرقي من أيام الموحدين ومن أيدهم أخد انفرادها يغمراسن ابن زيان"[5].

- وتكمن الأطماع المرينية اتجاه الدولة الزيانية في حصانة موقع تلمسان وقدرة هذا على مقاومة عوامل الانهيار، فهي في موقع وعر بحكم الطريق من قلب الصحراء إلى البحر وقوافل التجارة لابد أن تمر بها والهضبة التي تقوم عليها تزيد من مناعتها والسهل المحيط بها يقدم لها موارد العيش في وفرة.[6]

ومن مظاهر المرينيين اتجاه الزيانيين هي نظرتهم إلى يغمراسن ابن زيان الذي لم يستثن أحدأ فعندا بويع بالإمارة بعد مقتل أخيه أب العزة اطلع بالأمر بعزم وقوة فأخضع إلى سلطانه كل الذين كانوا قد خرجوا عن طاعة أخيه فأحسن السيرة في الناس تدبيرا وسياسة وعمل على تنظيم قواته العسكرية، كما اعتنى بتوفير الأسلحة والذخيرة لها استعدادا عن البلاد[7].

كما اعتنى بالجهاز الإداري فاستحدث مجلس وزاري وكتاب لمساعدته على تسيير أمور الإمارة، وألغى السلطة الفعلية للموحدين ولم يبقى لهم سوى التبعية الأدبية والروحية خاصة في عهد الخليفة السعيد بالدعاء له على المنابر أيام الجمعة والأعياد[8].



المطلب الثاني: أسباب الصراع الزياني المريني.

وفي هذا الصدد يبدو لنا أن الصراع العبد الوادي المريني صراع قديم وعليه كثرت الحروب بينهم، ولقد تميزت العلاقة بينهما بالعدوان وهذا راجع لعدة أسباب فهي لا تقل خطورة وشحنا للنفوس من سابقتها ونجملها فيما يلي:

أولا:

التحرش الدائم لبني عبد الواد ببني مرين، واتخاذهم موقفا منهم يقضي بمنعهم من إقامة كيان سياسي لهم على شكل دولة أو إمارة وهو ما يفسر عقد يغمراسن ابن زیان تحالفات دائمة ومستمرة ضد المرينيين مع القبائل المناوئة لهم ومع الموحدين وبني الأحمر في الأندلس، وذلك للإدراك أن قيام هذا الكيان السياسي سيؤدي حتما إلى إصدام عنيف بينهما يكون فيه بنو مرين أكثر قوة، وهو ما يؤدي إلى تهديد الزيانيين في وجودهم كدولة وككيان سياسي.

ثانيا:

 وقوف الزيانيين حجر عثرة في وجه الطموح المريني على تحقيق مشروع إعادة توحيد المغرب الإسلامي تحت رايتهم مثلما كان عليه الحال أيام الموحدين، وذلك باعتبارهم الورثة الشرعيين لقوة الدولة الموحدية، وسيجد هذا المشروع طريقه إلى الواقع بعد قيام الدزاة المرينية وخاصة في عهد أبي الحسن (732-749ه/1331-1348م) وابنه عنان فارس (749-759ه/ 1348-1357م ).[9]

ثالثا:

احتكار الدولة الزيانية للطرق التجارية بفضل الموقع الإستراتيجي لمدينة تلمسان، والذي تتربع فيه المدينة في نقطة عبور عدة طرق منها طريق شرق غرب يمتد من تونس إلى مدينة فاس عبر تلمسان ثم ينحدر جنوبا نحو سجلماسة، وذلك مرورا ببسكرة وتيهرت، وهناك طريق ثاني يمتد من الشمال إلى الجنوب.[10]

 رابعا:

 انطلاقا من موانئ المغرب الأوسط أهمها وهران وهنين مرورا بتلمسان سجلماسة وغيرها، وذلك لنقل ثروة إفريقيا جنوبا من الذهب والعاج عبر الصحراء وفضلا عن ذلك هناك فروع أخرى لطرق تمتد من الشرق إلى الغرب أو العكس مرورا بتلمسان وفاس ومنها إلى سجلماسة حيث تتفرع منه طرق أخرى، ولاشك أن هذا الموقع، كان وراء قوة الدولة الزيانية وامكانيتها المالية والاقتصادية كما أنه كان أحد الأسباب القوية في المحاولات الدائمة للمدنيين في تلمسان والاستيلاء على قدراتها التجارية لكونها ملتقى الطرق ومقصد تجار الأفاق.[11]

خامسا:

 كون تلمسان مفتاح المغرب الأوسط ومن ملك المفتاح أمكنه امتلاك البلاد كلها، وامتلاك المغرب الأوسط يعني امتلاك المغرب الأدني بكامله وبذلك يتحقق المشروع المريني في توحيد المغرب تحت رايتهم.[12]

 

 

سادسا:

 موقع المغرب الأقصى الذي يحده المحيط الأطلسي غربا، والصحراء جنوبا والبحر المتوسط والأندلس شمالا، وكانت المقاطعات والمناطق الإسلامية فيه تسقط الواحدة تلو الأخرى في يد المسحيين الإسبان، بحيث يمكن للمتطلع إلى الأحداث فيه أن يدرك أن سقوط آخر معقل للمسلمين في الأندلس وشيك وأمام هذا كله لم يكن للدولة المرينية من حيلة في سبيل توسعها إلى الناحية الشرقية حيث الدولة الزيانية'.[13]

 

المبحث الثاني: مظاهر الصراع الزياني المريني.

تمثل المعارك التي خاضها الجيش الزياني ضد خصومه (المرينيين، الحفصيين) نشاطا ميدانيا تطبيقيا لمجال التأطير والتعبئة التي عكف الزيانيون على توفيرها هذا الجهاز الحساس ماديا وبشريا، إذ تبرز قوته وفعاليته جليا بتعدد جبهات حركته وحيوية نشاطاته، وحسن توظيف القدرات الذاتية والخبرات القتالية للعناصر المكونة له، فتوجه سلاطين بني زیان لتثبيت دعائم دو اتهم، وإرساء حدود ثابتة لها، دفعهم غالبا إلى تولي قيادة الجيش بأنفسهم تبعا لطبيعة المعارك المصيرية التي خاضوها، بدءا بالتحدي الأول الذي وضعه مؤسسها بغمراسن بن زيان على عاتقه لتحقيق طموحه السياسي في إنشاء دولة ذات كیان خاص والذي تمكن من تحصيله عقب الدور الإيجابي الذي قام به سنة 646ه/1248م

في كبح جماح المرينيين الذين هددوا ملكه من الجهة الغربية.[14]

أولا: معركة وادي تلاغ 666ه/1267م:

 وهي من النماذج البارزة التي خاضها السلطان يغمراسن بن زيان مؤسس دولة بني زيان، اعتبارا  للظروف المحيطة بها، وارتباطها المباشر بالأحداث التي عرفتها الدولة الزيانية عقب محاولة المرينيين التوغل في أراضيها.

اندلعت هذه المعركة بعدما أبدى العاهل الزياني تحالفه مع أبي دبوس[15]، آخر سلاطين الموحدين في حربه ضد يعقوب بن عبد الحق المريني، نستشعر هذا التحالف في الرسالة التي بعثها يغمراسن لأبي دبوس والتي يقدم فيها للخليفة الموحد ويحذره من أطماع بني مرين فيما بقي من أقطار الدولة الموحدية، وتعهده بان يكفيه شربني مرين، ومما جاء في هذه الرسالة "إياك أن تطمع بني مرين فيما لديك، فأنا أكفيك شرهم وأنا وأنت يد واحدة في حربهم[16].

شعر أبو دبوس بعد الحلف الذي عقده مع يغمراسن يوطد سلطانة خاصة بعد أن تملك مراکش وأنحاءها، وهو ما أثار حفيظة يعقوب بن عبد الحق المريني الذي هب لمحاصرة مراكش وهو ما استغله يغمراسن في شن غازات كثيفة على أطراف المغرب الأقصى خاصة على إقليم ملوية للتخفيف من حصار أبي يعقوب بن عبد الحق على مراكشة، ولم بلغ ذلك مسامع أبي يعقوب أقلع مؤقتا عن حصار مراکش[17] مبديا استعداده لقال يغمراسن في جموع كثيرة وكان ذلك سنة 666ه1267م.

وكان يغمراسن من جانبه قد استكمل استعداداته العسكرية لمواجهة بني مرين، فالتقى الجمعان بوادي تلاغ قرب ملوية، ونشبت بينهما معركة حامية الوطيس، انتهت بهزيمة يغمراسن بن زيان الذي فر مع من بقي من فلول جيشه حيا نحو تلمسان وذلك سنة 12 جمادی الثانية الموافق لـ 28 فبراير 1268م .[18]

ثانيا: معركة وادي ایسلي 670ه/1271م:

حاول يعقوب بن عبد الحق المريني بعد معركة تلاغ مواصلة طموحه بالسيطرة على كامل أقطار المغرب، لذلك توجه بجيش جرار نحو تلمسان لغزوها[19]، غير أنه بعد وصوله نهر "تافنا" أتاه سفير السلطان ابن الأحمر يسأله نصرة الإسلام ودفع خطر النصارى عن المسلمين في الأندلس فوافاه النصرة وعدل من المسير إلى تلمسان، وراسل يغمراسن يطلب صلحة قائلا له "إن الصلح خير كله فإن جنح إليه وأناب فحسن، وإن أبي إلا القتال فأسرعوا إلي بالرجوع ... لكن السلطان يغمراسن رفض هذا الصلح قائلا له: "أبعد مقتل ولدي عمر أصالحه، والله لا كان ذلك أبدا ... حتى آخد منة الثأر وأديف بلاده التبار"[20].

دفع رفض يغمراسن الصلح إلى قيام يعقوب بن عبد الحق بإعلان التعبئة العامة، فحشد قوات جرارة وعنادا يفوق الوصف، وخرج لقتاله، وتم اللقاء بينهما في وادي ایسلي بمقربة من مدينة وجدة[21]، كانت هذه المعركة عنيفة، حيث لم تكن في صالح يغمراسن الذي اهزم فيها وقتل عدد كبير من جيوشه فيها، لكن لم يتمكن يعقوب بن عبد الحق من اقتحام تلمسان لحصانتها واشتداد شوكة حاميتها، وقرر الإنسحاب إلى فاس التي دخلها سنة 671ه /1272م .[22]

وقد أفرزت هذه المعركة بنتائجها قصر نظر يغمراسن وعدم تقديره الجيد لأبعاد الحدث، ثم عدم فهمه لحركة الجهاد التي كان ينوي يعقوب بن عبد الحق المريني القيام بها في الأندلس، ذلك لأن دولة بني الأحمر بالأندلس كانت تواجه موقفا حرجا على اعتبار أنها آخر المعاقل الإسلامية، وبالتالي كان على يغمراسن توحيد جهوده مع يعقوب بن عبد الحق للدفاع عن أراضي الإسلام في الأندلس.[23]

ثالثا: معركة تلمسان الأولى 698 ه / 1299م[24]:

 تمثلت الظروف المحيطة بها وأسبابها في رفض السلطان الزياني أبو سعيد عثمان بن يغمراسن (681-703ه/1282-1303م) تطلب الملك يوسف بن يعقوب المريني الذي تولى عرش فاس سنة (685-706ه/1286م-1306م) تجديد المعاهدة والهدنة التي كانت قائمة بينهما نحو ثماني سنوات والفاضة بتوحيد المغرب الكبير تحت نفوذ بني مرين. توجه يوسف بن يعقوب نحو مدينة تلمسان بجيش جوار محاولة منه لغزوها وإسقاط عرش بني زیان، غير أنه لم يتمكن من دخولها، الأمر الذي دفعه إلى محاصرها وتضييق الخناق عليها، وبناء مدينة جديدة غرب تلمسان أطلق عليها إسم "المنصورة "[25].

وقد أرجع المؤرخون عدم قدرة يوسف بن يعقوب اقتحام تلمسان إلى تصانة أسوارها ومناعتها ومقاومة أهلها مما أدهش بني مرين، وهو الأمر الذي ساهم بصورة فعالة في تثبيت دعائم الدولة الزيانية[26]، لقد حاصر المرينيون تلمسان مدة سنوات وثلاثة أشهر من 2 شعبان 698ه  إلى غاية ذي القعدة من سنة 706ه، ورغم هذا الحصار فإن الجيش الزياني لم يتقاعس الدفاع عن مدينته، فقد كانت تخرج كل يوم فرقة عسكرية خاطفة نقاتل الجيش المريني الذي كان محبطا بالمدينة والمقيم حولها وبأرباضها ثم العودة إلى موقعها، وهو أسلوب أتبعة الزيانيون في الحرب مع خصومهم لأنهم كانوا أقوى منهم عددا وعدة.

لقد أراد كل طرف من الزيانيين أو المرنيين أن تكون هذه المعركة لصالحه، فمن جانب "أبو سعيد عثمان" استرجاع سيادة بني زيان المطلقة على المغرب الأوسط وبالأخص تلمسان

التي كانت تعاني دوما من الغزوات المتتالية لبني مرين، ومن ثم استقرار الملك داخل البيت الزياني ومن جانب يوسف بن يعقوب محاولة للزعامة والتسلط و بسط نفوذ الدولة المرينية على المناطق الغربية للجزائر الحالية[27].

لقد قدمت لنا المصادر تفاصيل أشمل عن هذه المعركة سواء على تطور الأحداث فيما بعدها، أو ما تعلق بنتائجها، حيث هلك من سكان تلمسان جراء هذه المعركة التي فرض فيها المرينيون الحصار مائة وعشرين ألف ضحية جراء القتل والجوع، ولم يبق في صفوف بني زیان من المقاتلين إلا نحو الألف من الجند، ورغم هذا العدد القليل من المقاومين ظل الجيش الزياني يقاتل إلى آخر لحظة دفاعا عن العاصمة تلمسان، وفي هذا الصدد ينفي التنسي على الجيش الزياني في هذه المعركة قائلا: "ولقد رأيتهم يحملون وهم رجالة من الفرسان، فيفرون أمامهم ولا يقدرون أن يكروا عليهم، فما أكاد أقضي العجب من شجاعتهم".[28]

وقد أدى تطور الأحداث لدى الدولتين إلى اهتمام كل منهما بمشاكله الخاصة عقب توجه يوسف بن يعقوب المريني تحوفاس لتوطيد ملكه ومواجهة خصومه أبي سالم وأبي يحي اللذين كان يحاولان الإستيلاء على عرش فاس، أما السلطان أبو زبان بن عثمان الذي خلف عرش أبيه أبو سعيد عثمان الذي توفي بعد خمس سنوات من الحصار أي في سنة 703ه 1303م فحاول إصلاح أمور الدولة والجيش وترميم ما هدمته أدوات الحصار من أبراج وأسوار وإعادة نفوذ الدولة على المناطق والأقاليم التي خرجت عن طاعته[29] .

رابعا: معركة تلمسان الثانية 759ه 1358م:

وقعت في عهد أبو حمو موسی الثاني الذي كان أميرا من امراء بني زيان اللاجئين عند بني حفص بعدما تمكن بنو مرين من الاستيلاء على تلمسان سنة 753ه/1352م. عمل أبو حمو على إزاحة التواجد المريني من أراضيه، مما قاده إلى الدخول في صراع حاد معهم، استطاع فيه أن يحقق أهم إنتصار في معركة تلمسان والتي يمكن حصر أهم أسبابها الرئيسية فيما يلي :

- استمرار التواجد المريني على جزء معتبر من القسم الغربي للدولة الزيانية منذ سنة 1352م 753ه .[30]

- حيوية القيادة الجديدة للزيانيين الممثلة في شخصية الأمير أبو حمو موسى الثاني الذي حاول التصدي للهجمات المتكررة لبني مرين وبالتالي الحفاظ على وحدة تراب المغرب الأوسط .[31]

- توفر العلاقات المرينية - الزيائية نتيجة الإعتداءات المرينية المتكررة على تلمسان.[32]

- إستغلال أبو حمو موسی الثاني عجز المرينيين عن العبور إلى العدوة الأندلسية لرد هجمات الإسبان على أراضي الدولة النصرية وانهزام الجيش المريني في موقعة طريف المعروفة عند الإسبان بأسم "ريو سلادو" التي يذكرها ابن الخطيب بقوله: "فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء والأرزاء التي تضعضع لها، ركن الدين بالمغرب وقرت بذلك عيون الأعداء".[33]

أما السبب المباشر للمعركة فتمثل في معاودة المرينيين غزوهم تلمسان بقيادة السلطان أبي عنان واتخاذها مقرا له[34] .

هذه الظروف والأسباب مجتمعة دفعت أبو حمو موسی الثاني إلى ضرورة وضع حد لهذه التحديات والأحداث غير المستقرة في القسم الغربي من مملكة بني زيان خلال الفترة ما بين 791-759 / ه/1358-1389م

فسير نحو بني مرين جيشا كبيرا لا يذكر المؤرخون عدده، متكونا من القبائل المتحالفة كالدواودة، وبني عامر ومن أبناء عمومته زناتة، فضلا عن مساعدة بني حفص .

وعملا منه على التحكم في زمام المعركة وأدوارها اعتمد خطة هدفها مهاجمة قبيلة سوید أحد أعداء بني زيان في وادي ملال جنوب تلمسان لقطع المساعدة على الجيش المريني الذي يقوده ابن السلطان أبي عنان، وبالفعل انطلت الخطة على المدنيين حيث تمكن أبو هو الثاني من مفاجأة عرب سويد في عقر دارهم وقتل قائدهم عثمان بن و نزمار بن عريف و كثيرا من وجوه القبيلة وأعبائها وطردهم من المنطقة سنة 759ه/1358م، [35] ثم دخل تلمسان و مجموعه تلمسان وأناخ ركائبه عليها ونازلها ثلاثة أيام، بعد معركة شديدة مع المرنيين وأخرج منها ابن السلطان المريني الذي كان أميرا عليها خلفا لأبيه، وكان ذلك سنة 760ه/ 1359م.[36]

أما أبعاد هذا النصر بالنسبة الزيانيين فتجلت في:

- مبايعة أبو حمو موسی الثاني بحكم الدولة الزيانية من قبل بني عامر والمعقل وسكان ندرومة وهنين ومستغانم وتزعران والبطحاء.[37]

- إستغل أبو حمو الثاني هذا النصر في بناء الدولة الزيانية ومحاربة المناوئين والخارجين عنه حفاظا على وحدة تراب المغرب الأوسط.[38]

- مكنته هزيمة الخصم من کسب ود القبائل العربية المتحالفة معه التي ظلت منضوية تحت نفوذه تساعده في التصدي لكل محاولات الغزو المرينية المكثفة على العاصمة تلمسان كغزوة سنة 760ه/1359م، وغزوة سنة  761ه /1360م، وغزوة 772ه/1371م وغزوة سنة 784 1383/م وتجلى ثمار هذا الود في انتقالهم إلى أداة بناء أساسية للدولة.[39]

 

المبحث الثالث: دور التنظيمات العسكرية الزيانية في رد الاعتداءات المرينية

لعبت التنظيمات العسكرية الزيانية دورا حاسما في رد الاعتداءات الخارجية لا سيما الاعتداءات المرينية منها غرب الدولة و هذا بسبب عدة عوامل أهمها:

1-دور عدد الجيش الزياني وشجاعة المقاتلين:

كان للتفوق العددي في المعارك دورا كبيرا في حسم المواجهات المباشرة و غير المباشرة بين الطرفين ، خاصة في معركتي وادي تلاغ و واد اسلي .

و حصر تعداد الجيش الزياني ليس بالأمر السهل في ظل غياب مصادر دقيقة تضبط عدد الجيش ضبطا تاما في جميع المراحل التي مرت بها الدولة منذ بروزها إلى غاية أفولها، فالمصادر لم تُشر إلى ذلك على وجه التفصيل والتحديد، غير أن عبد الرحمن بن خلدون أشار إلى أنه غداة تأسيس الدولة الزيانية كان تعداد أُسر بني زيان حوالي الألف، في حين أن أسر المرنيين قُدرت بثلاثة آلاف[40].

ويظهر أن تقدير عبد الرحمن بن خلدون لعدد سكان تلمسان وجيشها قليل جدا استنادا إلى حجج منطقية وتاريخية، فلا يُعقل لدولة أن تقوم على هذا العدد القليل من السكان، وبالتالي تعداد جيشها قليل مقارنة بالانجازات العسكرية التي قامت بها مثل هزيمة الموحدين، وتوسع حدود الدولة من نهر ملوية غربا إلى بجاية شرقا، فقد ذكر حسن الوزان من أنه في عهد الأمير أبي تاشفين (737-718هـ/ 1318- 1337م)  فإن عدد أسرها قُدر يومئذ بـ ستة عشر ألف أسرة[41] ، وهذا التقدير جاء بعد الحصار الأطول وما انجر عنه من مقتل عشرات الآلف من السكان جوعا وهو ما يفسر بأن عدد السكان الزيانيين كان أكثر من هذا العدد قبل الحصار المريني.

ومن المرجح أن تقدير عبد الرحمن بن خلدون يخص عاصمة الزيانيين تلمسان فقط دون بقية المناطق الأخرى التابعة للإمارة، بدليل أن أخاه يحي بن خلدون الّذي خصص كتابه لتأريخ الدولية الزيانية قدر تعداد الجيش الزياني غداة تأسيس الدولة باثني عشر ألاف رام من المشاة دون الفرسان وهذا يوم 29محرم 640هـ  الموافق لـ 28جويلية عام 1242م، ويعتقد الباحث أن تقدير يحي بن خلدون مقدم على أخيه وعلى غيره من المؤرخين بحكم قربه النسبي من الواقع والأحداث المتعلقة بهم، تجلى ذلك من خلال ضبطه للأحداث المتعلقة ببني زيان.

ومهما يكن من أمر، فإن تعداد الجيش الزياني كان أقل بكثير مقارنة بالجيش المريني، فقد أحصى التنسي بأنه وفي أحلك أيام الحصار المريني لتملسان والذي تسبب في مقتل مائة وعشرون ألف جوعا بناء على ذكره يحي بن خلدون[42] ، مما أدى إلى انخفاض تعداد الجيش الزياني الذي قُدر بألف، يوم إذ لم يبق من الرعية سوى مائتين بعد أن هجرها أهلها نظرا للغلاء الفاحش الذي حل بتلمسان، وعلى الرغم من قلة عدد الجيش الزياني فإنهم كانوا حريصين كل يوم على مجابهة محاصريهم المرنيين الذين كانوا يفرون من فرسان الزيانيين، ولم يجرؤوا على مهاجمتهم نظرا للشجاعة التّي تحلى بها هؤلاء الفرسان.[43]

والذي يظهر أن تعداد الجيش النظامي الزياني لم يقل عن الألف في أدنى الحالات، ما أفاد به حسن الوزان الذي أشار إلى أن الأمير الزياني لا يحوز سوى على ألف فارس بدليل أنه في يوم الاحتفال الذي  يرتدي فيه الأمير لباسا جميلا في غاية الأناقة، وأن الجواد الّذي يمتطيه عليه أجود أنواع السروج، ومع ذلك فإن هذا الاحتفال لا يحضره سوى عدد ضئيل من الجيش لا يتجاوز تعدادهم ألف فارس، غير أنه وفي حال نشوب حرب فإن الأمير يُجند مختلف طبقات المجتمع القادرة على القتال: كالأعراب، والفلاحين، والذين يُستأجرون مدة معينة لأداء المهام العسكرية المنوطة بهم.[44]

2-دور أسلحة ومعدات الجيش الزياني:

تمتع الجيش الزياني بمعدات وأسلحة منها ما صنع محليا، ومنها ما تم استيراده، ولعل أشهر الأدوات التي استعملها الجيش الزياني هي السيوف والرماح، كما استعملت الخيول على نطاق واسع[45] ، كما استخدموا الدروع ويظهر بأن الجيش كان له من الطبول والرايات العدد الوفير بدليل أن الأمير المريني أبو ثابت بن أبي عامر طلب من الأمير الزياني أبو حمو أن يزوده من الطبول والرايات، بالإضافة إلى الرجال أثناء قتاله لبن سالم بن يوسف بن يعقوب، وبفضل هذا السند والمعدات هزم أبو ثابت عمه وقتله ، ويُفيد يحي بن خلدون من أن الأمير الزياني أعطى قائده يوسف بن حيان الهواري الطبل والبند في حروبه مع مغراوة.[46]

 وحتى الجيش المريني استعمل أيضا الطبول والبنود[47]، وذكر حسن الوزان لباس الجيش الزياني بأنهم يضعون على أظهرهم قمصانا فضفاضة مغطاة بكساء كبير، وفي الشتاء يضيفون له سترة من الجلد، غير أن أصحاب الرتب العالية في الجيش فيرتدون الجوخ والمعاطف شتاءا[48] .

وشد انتباه عبد الرحمن بن خلدون من أن الزيانيين تغيب عندهم الكثير من الألقاب والرتب المدنية والعسكرية، وعزا سبب ذلك إلى طابع البدواة الذي طغى على الدولة، غير أن غلضتهم و شجاعتهم و تهورهم هي من كانت سببا في انتصاراتهم.[49]

3-دور المنشئات العسكرية الزيانية:

حرص أمراء بني زيان على انشاء وترميم المباني العسكرية والتي أثبتت نجاعتها في العديد من العمليات العسكرية، ولاسيما في حال الدفاع، فما عجز المرينيين عن اخضاع حاضرة الزيانيين أثناء فترة الحصار إلا دليل على فعالية الحصون العسكرية في الأوقات الصعبة، ومن ذلك فإن الأمير أبو حمو غداة انتهاء الحصار المريني شيد الأسوار وحفر الخنادق، كما خزن كمية لا بأس بها من الطعام والفحم والحطب والأدم تحسبا لأي طارئ.[50]

ومن أبرز المنشئات العسكرية التّي بُنيت في العهد الزياني، نذكر الحصون التالية:
-قصر مزيز دكت: احتل هذا الحصن أهمية خاصة لوقوعه في صخرة شاقة في الطريق المؤدي من تلمسان إلى فاس، وتولى السكان المحليون تشيد هذا القصر لحمايتهم من غارة الأعداء، واستغله الأمراء الزيانيون بأن أقاموا عليه حراس أشداء بحكم أهمية موقعه بالنسبة لحدودهم الغربية المتاخمة للمرينين، وفي العقود الأخيرة للدولة ومع مجيء العثمانيين هجره السكان لمدة طويلة وحولوه إلى مخزن للحبوب[51] ، وفقد بذلك أهميته العسكرية بحكم انتهاء الصراع العسكري الزياني المريني.

-حصن إيسلي : يقع بين صحراء أنكاد وتلمسان، أُسس في العهد الروماني من طرف السكان المحليين، وفي عهد الزيانيين اكتسى هذا الموقع أهمية كبيرة فازدحم بساكنيه وحمى حدود الدولة الجنوبية من خطر أعراب الصحراء، إلا أن السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق (685-658هـ/ -1259- 1286م) خربه، مما اضطر السكان إلى هجره لسنين عديدة، ثم عادت إليه الحياة من جديد غير أنه لم يسترجع مكانته المعهودة.[52]
حصن تامزيزديت : شيد هذا الحصن في عهد الأمير أبي تاشفين إذ أمر قائده العسكري موسى بن علي أن يبنيه بضفاف وادي بجاية، ودامت مدة انجازه أربعين يوما فقط، ووطن فيها أكثر من ثلاثة آلاف فارس، وبفضل تشيد هذا الحصن بسط الجيش الزياني سيطرته على العديد من المناطق المجاورة لبجاية.[53]

وتجدر الإشارة إلى أن المريينين خلال حصارهم لتمسان شرعوا في بناء مدينة قربة تلمسان وأطلقوا عليها تلمسان الجديدة أو المنصورة ليتسنى لهم إحكام الحصار عليها وذلك في حدود سنة 698هـ/  1299م  غير أنها هدمت بعد إنتهاء الحصار المريني سنة 706هـ/ 1307م.[54]

4- دور الإستراتيجية العسكرية للجيش الزياني:

تأرجحت الإستراتيجية العسكرية للجيش الزياني بين الهجوم والدفاع حسب الموارد البشرية والمادية المتاحة للجيش، بالإضافة إلى الظروف المحلية والإقليمية السائدة في المنطقة، ففي حال الضعف يكتفون بالدفاع عن الحدود، وأما في حال القوة فإنهم يشنون هجمات خاطفة على أعدائهم من القبائل الخارجة عن طاعتهم أو مجابهة المرينيين.

وتتخلص الإستراتيجية العسكرية للجيش الزياني من خلال الوصية البالغة التي أسدها الأمير الزياني أبو موسى بن عثمان، لابنه عثمان، ومما جاء فيها: "يا بني إنّ بني مرين بعد استفحال ملكهم واستيلائهم على الأعمال الغربية وعلى حضرة الخلافة بمراكش، لا طاقة لنا بلقائهم إذا جمعوا الوفور مددهم، ولا يمكنني أنا القعود عن لقائهم لمعرة النكوص عن القرن التي أنت بعيد عنها. فإيّاك واعتماد لقائهم، وعليك باللياذ بالجدران متى دلفوا إليك، وحاول ما استطعت الاستيلاء على ما جاورك من عمالاتهم، وممالكهم، يستفحل به ملكك، وتكافئ حشد العدو بحشدك"[55].

ومن خلال تتبع الحروب والمعارك التي خاضها الجيش الزياني منذ بدايات عملياتهم العسكرية يُلاحظ أنهم اعتمدوا على هذه الإستراتيجية العسكرية الناجعة في أغلب الأحيان حتى قبل عهد الأمير أبي حمو موسى بن عثمان، فقد شن الجيش الزياني هجمات على المغرب الأقصى قبل تأسيس حاضرة مراكش عاصمة المرينيين، ثم لما أعلن عن تأسيس هذه الدولة فإن الزيانيين اكتفوا بالدفاع عن حدودهم الغربية بدل الهجوم.
وأكد يحي بن خلدون من أن الأمير يحي بن يغمراسن شن هجوما سنة 655هـ/1257م للاستيلاء على سلجماسة، فضمها إلى إمارته سنة 662هـ/ 1264م غير أنها خرجت من أيدهم سنة 673هـ/1274م.

ويرى هذا المؤرخ أن سبب استحواذ المرنيين على سلجماسة أنهم في سنة 668هـ/ 1269م سيطر المرينيون على مراكش، فاشتدت قوتهم بسبب تحصيلهم للأموال والرجال من المناطق والقبائل التي استولوا عليها .[56]

ويُفهم من كلام يحي بن خلدون ان الإمكانيات المادية والبشرية التّي كانت بحوزة الجيش المريني فاقت إمكانيات الجيش الزياني.

فإذا كانت الإستراتيجية القتالية لدى الزيانيين ثابتة على حدودهم الغربية مكتفين بالدفاع وصد الهجوم المريني بين الفينة والأخرى فإن استراتيجيتهم العسكرية ازاء حدودهم الشرقية تراوحت بين الدفاع في حال الضعف والهجوم في حال ما سمحت لهم إمكانياتهم بذلك.
برزت السياسة الهجومية من جديد لدى الجيش الزياني مباشرة بعد انتهاء الحصار الأكبر الذي دام ثماني سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام، ففي يوم الخميس 20ذي الحجة 706هـ الموافق لـ  21جوان 1307م، شنوا هجوما مباغتا بقيادة الأمير أبي زيان في البر والبحر على القبائل المناوئة لهم التّي استغلت ظروف الحصار المرير لتخرج عن طاعة الأمراء الزيانيين، فاستهدفوا قبيلة مغراوة وزحفوا نحو الشلف واستولوا على عدة حواضر منها، فأمنوا البلاد والعباد واسترجعوا هيبتهم، فرجع الأمير ومن معه إلى العاصمة تلمسان محققين النصر المبين.[57]

فقد أبان فيها الجيش الزياني مقدرة وتفوقا في الهجوم، فأخضع القبائل المتمردة لسيطرته كما هدد الحدود الدولة الحفصية فقد تمكن الزيانيون الوصول إلى بلاد إفريقية وبسطوا نفوذهم على أراضي شاسعة للحفصيين.[58]

 

المبحث الرابع: تقييم دور الجيش الزياني في رد الاعتداءات المرينية

 إن تقييم دور الجيش الزياني في درأ الأخطار الخارجية والداخلية عن الدولة الزيانية والحفاظ على وجودها الجدير بالدراسة والتحقيق بحكم الآراء والاتجاهات المتضاربة في هذا الشأن.

ومما يلفت الانتباه أن بعض المصادر التاريخية لم تنصف انجازات الجيش الزياني ولم تعرها أي اهتمام، كابن الأحمر الذي لم يشر إلى الجيش الزياني ولم يقدره قدره[59]، ومما يدل على أن الجيش الزياني لم يكن لقمة سائغة لأعدائه أن السلطان المريني أبا الحسن علي لما انتصر على الزيانيين في بجاية كتب رسالة إلى سلطان الممالك محمد بن قلاون يبشره فيها بفتح بجاية[60]، والمتمعن في هذه الخطوة يدرك بأن الجيش الزياني كان له شأن ولم يتغلب عليه المرينيون إلا بشق الأنفس. وما عجزهم عن اخضاع تلمسان بعد حصار دام أكثر من ثماني سنوات الدليل قاطع بأن الجيش الزياني كانت له مؤهلات مكنته من الصمود حتى وهو يمر بأصعب الظروف[61].

ومن المؤرخين المشارقة الذين اقتفوا نهج المؤرخ ابن الأحمر ولم يعطوا الجيش الزياني حقه يوجد الظاهري، الذي أفرد عنوانا «زوال دولة بني عبد الواد» وهذا في حدود جمادي الآخرة 827ها ماي 1424م لما سير السلطان الحفصي أبو فارس عبد العزيز عملية عسكرية بقيادة ابنه المعتمد علي الله ضد الأمير الزياني محمد عبد الواحد، وأكد من أن هذه الحملة أزالت دولة بني زيان من الوجود بعد أن عمرت مائة وثمانيين سنة، ويؤكد نفس المصدر بأنه لم تقم قائمة الأمراء بني زیان بعد هذه الواقعة، ووافقه في ذلك بعض المؤرخين المشارقة كابن العماد الحنبلي (ت1089ھ/1679م): بقوله: "وانقضت دولة بني عبد الواد بتلمسان، وصارت لصاحب فاس"[62]. ولا يساور الباحث شك في أن هذا الادعاء مرجوح لما يقارن بالمصادر والمراجع المعاصرة للزيانيين، أو التي جاءت من بعد، فقد استدرك القلقشندي (ت. 821ه/1418م) على ابن فضل الله العمري (ت. 749ه/1349م) صاحب کتاب مسالك الأبصار الذي ذكر مملكة (الإمارة الزيانية) مضافة إلى مملكة فاس، والسبب في ذلك أن صاحب فاس استولى على الدولة الژيانية زمن العمري وهو السبب الذي جعل العمري يضيف أراضي الزيانيين إلى فاس. ويؤكد القلقشندي من أن الأمير الژياني موسى بن يغمراسن كتب إلى سلطان المماليك محمد بن قلاون رسالة وهو ما يدل على أنها كانت مستقلة في ذلك الوقت[63] ، كما كتب الأمير الزياني عبد الرحمن بن أبي موسى بن يغمراسن رسالة إلى نفس السلطان المملوكي في حدود سنة 725ھ/ 1325م.[64]

ومن المراجع الموثوقة التي قدرت منجزات الجيش الزياني، يوجد المؤرخ التونسي محمود بن سعيد مقديش (ت. 1228 ه /1813 م) والذي يرى من أن ملك الزيانيين رجع إلى تلمسان من جديد[65].

 وأكد المؤرخ الفرنسي شارل ايمنوييل ديفوك من أنه على الرغم من حدود الدولة الزيانية لم تكن مستقرة تماما إلى درجة أن الزيانيين اعترفوا بالسيادة الحفصية لبعض الوقت إلا أنهم سرعان ما برزوا كقوة فردية بين المرنين والحفصيين إلى درجة أن الأوروبيين اعتبروهم أكثر الأراضي المغاربية أصالة"[66]، وقد أثنى كل من الرحالة العبدري والمؤرخ مارمول كربخال على حسن أخلاق أهلها[67].

وأشار الرحالة البلوي أثناء رحلته إلى الحج بأن تلمسان تعرضت لحصار المرنيين غير أنه وأثناء رحلة العودة وجد حاضرة الزيانيين تلمسان تنعم بالأمن والاستقرار.

 هذا وظل الجيش الزياني يتقلب بين القوة والضعف، ففي حدود سنة 825ه /1422م قوي شأن الجيش الزياني.[68]

ومهما يكن من أمر وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للدولة الريانية وجيشها من طرف المؤرخين المعاصرين لها أو ممن جاء بعدهم فإنه لم يشهد تيار الهجرة الجماعية للسكان المنضويين تحت الإمارة الزيانية نحو الشرق بل وبالعكس فقد شوهت تیار من الهجرة متجه من الجارة الشرقية إلى الزيانيين[69]. باستثناء بعض الحالات التي عرف فيها أهل تلمسان النزوح، کسنوات الحصار المريني الذي طال أمده.[70]

ويتضح من خلال اتجاه ظاهرة الهجرة والنزوح بأن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية ببلاد المغرب الأوسط خلال العهد الزياني كانت أحسن مما هي عليه مقارنة بدول الجوار، وهو ما يؤكد بأن السلطة الزيانية قامت بما يجب عليها القيام به على الرغم من تقليل انجازاتهم ومشاريعهم الاقتصادية والعسكرية، وقد أكد هذا ديفوك من أن الإمارة الزيانية ومنذ تأسيسها تمتعت بموانئ مهمة ممتدة من تلمسان غربا إلى الجزائر شرقا كميناء وهران[71]" ورشغون وهنين الكبير وتاونت ومزغران ومستغانم وتنس إلى غاية برشك (حاليا قورايا بتيبازة) وشرشال، واستطاعت أن تستقطب تجارا من أوربا على شاكلة الجنويين والبيزيين والمرسلين، وأكد نفس المؤرخ من أن التجارة الزيانية كانت أكثر تنظيما من جيرانها الشرقيين والغربيين، وأوثق ارتباطا بالعالمين الإفريقي والأوروبي، مستدلا بمرور قوافل عظيمة من بلاد السودان جنوبا صوب تلمسان شمالا، ومنها إلى أوروبا[72].

وروى العبدري في رحلة العودة من بلاد المشرق أنه لما وصل إلى تلمسان وأراد الخروج منها لم يتسن له ذلك خوفا من قطاع الطرق في المسلك الرابط بين تلمسان ووجدة، وانتظر انطلاق قافلة عظيمة يتجاوز تعدادها الألف مزودة بالحراسة من لدن الجيش الزياني"[73]، وأشار إلى هذا الطرح مارمول كربخال أنه حتى في الحالة التي يعسر فيها على الدولة حماية القوافل التجارة المارة بالمسالك الرئيسية فإنها تلجأ إلى استئجار بعض القبائل لتأمين الطرقات[74]  وقد أشاد برواج أسواقها العبدرية. وفي رأي الباحث أن انتعاش التجارة الزيانية

مرده بالدرجة الكبرى إلى وجود جيش قوي قام بتأمين المسالك والأسواق من قطاع الطرق ومن هجمات العدو.

ومما يؤاخذ عليه الجيش الزياني هو استنجادهم بالملك أرغون أثناء محاولاتهم حصار بجاية في حدود سنة 727ه/ 1327م"[75]، ولعل مرد هذا الاستنجاد هو ضعف الزيانيين في المجال البحري فلجئوا إليه من أجل تزويدهم بالمراكب البحرية.

إن ضعف البحرية الحربية الزيانية نقطة تحسب على الجيش الزياني، فقد استغلت القوى المحلية کثابت بن منديل الذي عاث في بلاد المغرب فسادا وتمردا، خاصة في المدية ومازونة وبرشك وعلى إثر الحصار الذي فرضه عثمان فإن ثابت استغل الضعف الزياني البحري فركب البحر ووصل إلى السلطان المريني يوسف بن يعقوب سنة 694ه /1295م واستطاع أن يؤلب المرينيين على الزيانيين[76]، فكان له اليد الطولي في الحصار الأكبر .

ودفع الزيانيون ضريبة باهظة عن ضعفهم البحري لما تمكن الاسبان من احتلال مرسى الكبير بوهران، وهي تركة ثقيلة ورثها الزيانيون إلى درجة أن العثمانيين وعلى الرغم من كفاءتهم البرية والبحرية عجزوا عن تحريرها لمدة تجاوزت القرنيين والنصف من الزمن[77].

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خلاصة:

بذل الجيش الزياني جهودا مضنية في سبيل الحفاظ على كيان الدولة الزيانية، والتي مرت بظروف عسكرية وأمنية في غاية التعقيد نتيجة لتعدد جبهات القتال التي أرهقت کاهل الجيش الزياني الذي لم يدخر جهدا في الدفاع عن حدودها ومصالحها ضد القوى الداخلية والخارجية المتربصة بها، وما ثباته في الحصار الأكبر لدليل ساطع على بسالة وقوة الجيش الزياني و الذي كان لتنظيماته العسكرية  الدور الفعال في رد أغلب الاعتداءات المرينية حيث أنه  استفاد من ميزانية كبيرة لم يتوان الأمراء الزيانيون في تخصصيها لهم.


[1] مبارك محمد الميلي، تاريخ الجزائر في القديم والحديث، ج 2، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، دط، دت، ص 422.

[2] يحي بوعزيز، موضوعات وقضايا من تاريخ الجزائر والعرب، دار الهدى، عين ميلة - الجزائر، دط، 2004م، ص 70.

[3] ابن الأحمر، المصدر السابق، ص 14.

[4] نهر التافنا: نهر ينبع من جبل بني ورين قرب قرية سيدو جنوبي تلمسان ويسير في إتجاه جنوبي غربي، وشمالي شرقي يصب في البحر المتوسط، ينظر :أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، تح، عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، دط، 1972م، ص 291.

[5] ابن خلدون، العبر، المصدر السابق، ج7، ص 189

[6] ابن الأحمر، المصدر السابق، ص 15.

[7] هوارية بكاي، العلاقات الزيانية المرينية سياسيا وثقافيا، رسالة ماجستير ، قسم تاریخ، جامعة تلمسان، أبو بكر بلقايد، 2008/2007 ص 21.

[8] القلقشندی، مأثر الأناقة في معالم الخلافة ،تح، عبد الستار أحمد فراح، ج2 ، مطبعة حكومة الكويت ، ط، 1985، ص 34.

[9] عبد العزيز محمود لعرج، مدينة المنصورة المرينية بتلمسان، دراسة تاريخية أثرية في عمراتها وعمارتها وقوتها، زهراء الشرق، القاهرة، دط، دت، ص ص 20-21.

[10] مبارك الميلي، المرجع السابق ، ص 422.

[11] عبد الرحمان الجيلالي، المرجع السابق، ج 2، ص 112.

[12] محمود لعرج، المرجع السابق ، ص 21.

[13] مبارك الميلي، المرجع السابق، ج 2، ص 422.

[14] خالد بلعربي : الصراع العسكري الزياني المريني ، مجلة الحضارة- قسم التاريخ – جامعة  الجيلالي اليابس - سيدي بلعباس، العدد 14- شعبان 1431ه/2010م.

[15] ابن خلدون، العبر، المصدر السابق، ج7، ص 189

[16] خالد بلعربي، الدولة الزيانية في عهد يغمراسن، دار الريان للنشر و التتوزيع، تلمسان ، 2005، ص 112.

[17] ابن خلدون، العبر، المصدر السابق، ج7، ص 86.

[18] بلغ هذا الجيش حوالي ثلاثون ألفا و كان يتكون من عناصر مختلفة من صنهاجة و مصمودة و تلكانة ، أنظر ابن عذارى ، المصدر السابق ، ص 330.

[19] ابن أبي  زرع، المصدر السابق، ص 104.

[20] المصدر نفسه، ص 103.

[21] خالد بلعربي، المرجع السابق، ص 115.

[22] ابن خلدون، العبر، المصدر السابق، ج7، ص 195.

[23] عبد العزيز فيلالي، المرجع السابق، ج1، ص 27.

[24] عبد العزيز فيلالي، المرجع السابق، ج1، ص 28.

[25] خالد بلعربي، المرجع السابق، ص 117.

[26] المرجع نفسه، ص 118.

[27] خالد بلعربي، المرجع السابق، ص 132.

[28] يحي بن خلدون، بغية الرواد، ج6، ص 211.

[29] عبد العزيز فيلالي، المرجع السابق، ص 52.

[30] الأخضر عبدلي، المرجع السابق، ص 158.

[31] المرجع نفسه، ص 159.

[32] لسان الدين بن الخطيب، الاحاطة في أخبار غرناطة، ج2، تحقيق محمد عبد الله عنان، دار المعارف، مصر، ص 180.

[33] يحي بن خلدون، بغية الرواد، ج2، ص 19.

[34] عبد العزيز فيلالي، المرجع السابق، ص 54.

[35] ابن خلدون، العبر، ج7، ص 56.

[36] أبو حمو موسى الزياني، المصدر السابق، ص 14.

[37] عبد العزيز فيلالي، المرجع السابق، ج1، ص 55.

[38] المرجع نفسه، ص 56.

[39] ابن خلدون، العبر، ج7، ص 260.

[40] ابن خلدون عبْد الرحمن بن محمد بن محمد (ت. 808هـ/ 1406م  ( ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تح. خليل شحادة، ط. ،2دار الفكر، 205، ص1 .م، ج1988 /هـ1408 ،بيروت.

[41] التنسي، المصدر السابق، ص 118.

[42] يحي بن خلدون : المصدر السابق، ج1 ، ص 125 .

[43] التنسي، المصدر السابق، ص 132.

[44] حسن الوزان، المصدر السابق، ج2، ص 23.

[45] أبو حمو الزياني، المصدر السابق، ص 18.

[46] يحي بن خلدون، المصدر السابق، ج1، ص 128.

[47] اسماعيل ابن الأحمر، روضة النسرين في دولة بني مرين، ص 59.

[48] حسن الوزان، المصدر السابق، ج2، ص 21.

[49] عبد الرحمان بن خلدون، المصدر  السابق، ج1، ص 301.

[50] التنسي، المصدر السابق، ص 136.

[51] مارمول كربخال، إفريقية، ترجمة محمد حجي و آخرون، مطابع المعارف الجديدة، ج2، الرباط، 1989، ص 293.

[52] مارمول كربخال، المصدر نفسه، ص 48.

[53] التنسي، المصدر السابق، ص 143.

[54] اسماعيل ابن الأحمر، روضة النسرين في دولة بني مرين، ص 50.

[55] عبد الرحمان بن خلدون، المصدر  السابق، ج1، ص 123.

[56] يحي بن خلدون، المصدر السابق، ج1، ص 115.

[57] المصدر نفسه، ص 125.

[58] روبار برنشفيك ، تاريخ إفريقية في العهد الحفصي من القرن 13إلى القرن 15 ، ترجمة  حمادي الساحلي ، ج2، دار الغرب الاسلامي، بيروت ،1988، ص77 .

[59] ابن الأحمر، تاريخ الدولة الزيانية بتلمسان، ص 212.

[60] القلقشندي، المصدر السابق،ج7، ص 413.

[61] الظاهري زين الدين عبد الباسط بن خليل بن شاهين ، نيل الأمل في ذيل الدول، تح. عمر عبد السلام التدمري، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، 2002م. ج4 ،ص 160.

[62] ابن العماد الحنبلي عبد الحي بن أحمد بن محمد (ت. 1089هـ/ 1679م: ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تح. محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، 1406هـ/ 1986م، ج8 ،ص 586.

[63] القلقشندي، المصدر السابق،ج7، ص 413.

[64] القلقشندي، المصدر السابق،ج8، ص 85.

[65] مقديش محمود بن سعيد (ت 1228ه/ـ 1813م:) نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار، تح:علي الزواري، محمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1988م،ص 578.

[66] العبدري، المصدر السابق، ص 48.

[67] البلوي خالد بن عيسى بن أحمد (ت. بعد 767هـ/ 1365م( : تاج المفرق في تحلية علماء المشرق، تح: الحسن السائح، مطبعة فضالة، المحمدية ، المغرب.

[68] ابن حجر أحمد بن علي بن محمد العسقلاني (ت. 852هـ/ 1449م( : إنباء الغمر بأبناء العمر، تح. حسن حبشي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1389هـ/ 1969م، ج3 ، ص 277.

[69] برنشفيك : المصدر السابق، ج2 ،  ص 161 .

[70] التنسي، المصدر السابق، ص 132.

[71] العبدري، المصدر السابق، ص 561.

[72] المصدر نفسه، ص 561.

[73] المصدر نفسه، ص 563.

[74] مارمول كربخال، المصدر السابق، ج2، ص 292.

[75] العبدري، المصدر السابق، ص 48.

[76] عبد الرحمان بن خلدون، العبر،  المصدر السابق، ج7، ص 90.

[77] أحمد توفيق المدني: حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر واسبانيا ،1792-1492 ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ص 111.


NomE-mailMessage