JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
Accueil

الأنساق المضمرة نحو وعي نقدي جديد بقراءة ثقافية للنص

خط المقالة

 

1-النسق الثقافي:

تعد الأنساق الثقافية، من أهم المفاهيم التي ارتكز عليها النقد الثقافي، بل هي أساس هذا النقد، حيث إن هذا النقد - كما تمت الإشارة له سابقا - يعتمد على استخلاص المضمرات من النصوص، لذا كان لزاما التعرف على الفسق، فما المقصود بالنسق الثقافي؟ وهل يختلف النسق الثقافي عن الدراسات النسقية التي واكبت البنيوية؟ هذا ما سنعرفه من خلال تتبع تعاريف النسق من الناحية اللغوية ثم من الناحية الاصطلاحية.

1-1-تعريف النسق لغة:

تعددت التعاريف اللغوية لمفهوم النسق لغويا، فقد جاء في معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي إن: " النسق من الشيء : ما كان على نظام واحد عام في الأشياء، ونفثه نسقا، ونفثة تنسيقا، ونقول انتسقت هذه الأشياء ببعضها إلى بعض أي تنسقت"[1].

ويعرف بن منظور النسق باعتبار : " النسق من كل الشيء : ما كان على طريقة نظام واحد عام في الأشياء إلى بعض، أي، تنسقت، وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال بين الحج والعمرة، قال شهر معنی ما سيقوا وتابعوا وواتروا، يقال ناسق بين أمرين أي تابع ما بينهما .... والنسق ما جاء من الكلام على نظام واحد، والنسق الرجل إذا تكلم سجعا.[2]

ويعرف المعجم الوسيط: " النسق (نسق) الشيء: نظمه، يقال نسق الدر ونسق كتابه والكلام عطف بعضه على بعض (ناسق بين أمرين، تابع بينهما، ولاءم (نسقه) ما كان على نظام واحد من كل شيء ، يقال جاء قوم نسلها، ويقال نسق مستوى البنية حسن التركيب، يقال كلام نسق: متلائم في نظام واحد".[3]

ولا يتعدى مفهوم النسق حسب ما سبق مفهوم نظم الشيء الآخر أو لضمه، لكن هل يحمل النسق ذات المعني من الناحية الاصطلاحية؟ أم أنه اتخذ بعدا آخر؟

1-2-تعريف النسق اصطلاحا:

تنوعت التعاريف التي تشير لمفهوم النسق، فمحمد مفتاح يعرفه بأنه:" انتظام بنوي يتناغم وينسجم فيما بينه ليولد نسقا أعم وأشمل، وعلى سبيل المثال يصف المجتمع بأنه نسق اجتماعي عام ينتج عنه مجموعة أنساق فرعية انتظمت معه وشكلته، فتولد عنه نسق سياسي وأخر اقتصادي، وعلمي وثقافي، تنسج علاقاتها فيما بينها في مسافات متفاعلة ومتداخلة ".[4]

يتضح من خلال تعريف محمد مفتاح أن النسق انطلق من البنيوية، التي عنيت بدراسة النص ضمن نسقة الداخلي، على اعتبار أن النسق البنيوي احدى مظاهر النسق العام فالنسق: " البنيوي مظهر من مظاهر النسق العام، فقد يكون هذا النسق مغلقا كما تطرحه البنيوية، يكون مفتوحا كما هو الشأن بالنسبة إلى المناهج النقدية الأخرى مثل السيميائيات، والتأويليات المعاصرة، وتبعا للتصورات التي تقدمها القراءة للنسق تتحدد طبيعته ".[5]

يعد انطلاق البنيوية من النسق المغلق هو سبب أفولها وأزمتها حيث إن الاهتمام بالشكل، ووهم المحايثة  قيد الخوض في المضامين والتأويلات، وعدم منح الذات الناقدة حرية، لذا أدى إلى انسداد المنهج، الشيء الذي دفع بالسيميائيات والتأويليات لفتح المجال أمام النسق، فظهر النسق المفتوح وتطورت استخداماته خاصة مع الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، اللذين ضربا التحليل المحايث عرض الحائط.

ويعتبر ليفي شتراوس Claude Levi Strauss من أوائل الذين نقلوا مصطلح النسق إلى الحقل الثقافي في دراسته الانثروبولوجية البنيوية سنة 1957، حيث أكد على وجود کلي أو عالمي سابق على الأنساق، فاللغة والثقافة ذات طابع واحد، ويعد فردينان دي سوسير De Ferdinand Sausure من أوائل الذين استخدموا لفظة النسق في تعريفاته، فاللغة عنده نظام من العلامات، أوهي نسق من المعلومات، للتعبير عن الأفكار مثلها مثل نسق الكتابة ونسق الإشارة عند الصم البكم وغيرها من الإشارات غير اللغوية.[6]

ويكون بذلك النسق كمصطلح ظهر مع البنيوية، على اعتبار أن البنيوية تدرس النص کنسق مغلق، مهملة كل السياقات التي انتجت النص، الشيء الذي أدى لأزمة البنيوية، والمناهج النصائية التي تلته، الشيء الذي دفع بنقاد ما بعد البنيوية للاهتمام بالسياقات الخارجية، وهو ما سينجم عنه تغير معنى الفسق واتخاذه منحى جديد خاصة مع النقد الثقافي، على اعتبار أنه يقوم على النسقية.

1-3- النسق الثقافي:

يعد النسق من منظور النقد الثقافي شيئا مختلفا تماما عما جاء في المفهوم البنيوي للنسق، رغم أنه استفاد من الدرس اللساني ثم وجهه وجهة أخرى، فالنسق الثقافي لا يتمثل في اللغة وتركيبة النص، بل هو نسق دلالي يتجلى في المضمون الثقافي للنص وحمولاتها.[7]

 ويذهب الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز 1926م-2006م  إلى اعتبار النسق:" نتاج حقلين أساسيين هما الأنثروبولوجيا، والنقد الحديث، من خلال التداخل بينهما".[8]

بذلك يكون النسق الثقافي حسب غيرتز تجاوز لمفهوم البناء الاجتماعي الذي يعتبر الثقافة مجموعة من الأنظمة المحسوسة والأنماط السلوكية، والعلاقات الاجتماعية واختلاف العادات والتقاليد، كما أنه يتجاوز كذلك البنيات اللاشعورية الثابتة ، فالنسق عنده نتاج تداخل بين الأنثروبولوجيا والنقد متجاوزا بذلك المفهوم القديم للثقافة واختلافات العادات والتقاليد وكل البنيات اللاشعورية المتعارف عليها، والنسق وفق ذلك يختزن بداخله كما ثقافيا مضمرا.[9]

أما النسق الثقافي عند العرب فقد ظهر في البداية عند الغذامي من خلال اضافته الوظيفة النسقية للنموذج الاتصالي عند رومان جاكبسون Roman Jakobson، حيث أصبح هذا النموذج الاتصالي يتألف من ( مرسل، مرسل إليه، الرسالة، السياق، الشيفرة - السنن - قناة الاتصال ) مضافا إليه عنصر النسق، هذا النسق حسب الغذامي مضمر وليس ظاهر فهو" مضمر ولاشعوري ليس في وعي المؤلف ولا في وعي القارئ هو مضمر نسقي ثقافي لم يكتبه كاتب فرد لكنه أنوجد عبر عمليات من التراكم والتواتر حي صار نسقيا يتلبس الخطاب ورعية الخطاب من مؤلفين وقراء"[10].

كما اعتمد يوسف عليمات على النسق الثقافي في دراسته للشعر العربي القديم من خلال كتابه الموسوم ب" النسق الثقافي، قراءة ثقافية في أنساق الشعر العربي القديم"، غير أنه لم يقدم تعريفا للنسق بل جعله يرتبط بالصورة الفنية، لكنه مختفي، يحمل الطبيعة السردية، متحرك في حبقة متقنة، تجعله يحمل أقنعة متعددة لعل أهمها اللغوية الجمالية المستقاة من البلاغة وعلومها.[11]

ومفهوم النسق الثقافي لم يكتمل إلا على يد الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو الذي قدم له تعريفا شاملا، حين عرفه بقوله بأنه" مواضعة اجتماعية، دينية، أخلاقية استيتيقية تفرضها في لحظة معينة من تطورها الوضعية الاجتماعية والتي يقبلها ضمنيا المؤلف وجمهوره".[12]

2- مراكز النقد الثقافي

تعددت الدراسات التي اهتمت بالجانب الثقافي، والتي يمكن اعتبارها مراكز أسهمت في میلاد النقد الثقافي بصورته الحالية، هذه المركز أسهمت في تطوير النقد، وأعطت نظرة جديدة للنص الأدبي، وهي:

2-1 -مدرسة فرانكفورت:

هي مدرسة ألمانية اشتهرت بنظريتها النقدية من أبرز أعلامها ماكس هوركهايمر(1895-1976) و تيودور

أدورنو  (1903-1969) ويورغن هابرماس (1929 م) حيث شنت النظرية النقدية عندهم " حملة شعواء على تحويل العقل إلى مجرد آلة.. فانتقدوا النزعة الوضعية، والفلسفة البراغماتية، ويمكن هنا أن تجد القراءة النسقية في مدرسة فرانكفورت خلاصها من ذلك التصور الأوحد للنسق".[13]

ويعد اعلام هذه المدرسة من تلاميذ مدرسة الجشطالت[14]، وخاصة علم النفس - هذا - العلم الذي سنتعرف لاحقا على أنه أحد العلوم التي ساهمت في النقد الثقافي - ودعت هذه المدرسة إلى عدم التقيد بالعقل في دراسة النصوص، بل الاهتمام بالجوانب الأخرى التي تحيط بالنص، وقد تبنى مثقفو نيويورك أفكار هذه المدرسة الشيء الذي ساهم على بناء أفكار جديدة لتعلن عن ميلاد النقد الثقافي.

ويذكر ليتش وفي هذا الصدد اعتماد بعض النقاد على منهج التحليل النفسي الذي تعد ألمانيا رائدة فيه: "وقد اعتمد الكثير من مثقفي نيويورك على التحليل النفسي في ممارساتهم للنقد الثقافي، مثل ادموند ويلسن، في الجرح والقوس 1941 م، كما يضع تريلنج التحليل النفسي في سياق النقد الثقافي".[15]

2-2-مدرسة النقد الجديد:

وهي مدرسة ظهرت في القرن العشرين، وهي المدرسة التي ظهرت في فرنسا في النصف الثاني للقرن العشرين، والتي استخدم أصحابها مناهج العلوم مختلفة مثل التحليل النفسي، والاجتماعي والدراسات الأنثروبولوجية ومختلف الإيديولوجيات من أجل تحليل النص[16].

ويعتبر رولان بارت أهم رواد هذه المدرسة، حيث تميل تحليلاته الى النفسية والسيميولوجية في تحليل النص الأدبي إلى الأنساق الدلالية، والتي تعد جزء من النسق العام الثقافي"، وقد طبق بارت ذلك من خلال دراسته لمسرح راسين، فقد كان" تطبيق بارت للبنيوية بمثابة هجوم على الأساس الذي قام عليه خطاب النقد الأكاديمي، وعلى الجوانب السياسية المتضمنة في هذا الخطاب". [17]

وقد جعل بارت من العلاقة بين اللغة والكلام تحمل مفهوم الوعي الجمعي الذي جاء به إيميل دوكايم (1858 م-1917 م)، وكشف بارت عن مفهوم اللغة اللاواعية في الكتابة من خلال تتبع الرغبات والانفعالات ضمن الحياة الاجتماعية والسياسية، وكذا وسائل الاعلام ووسائطه.

2-3-مرکز برمنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة:

هو مركز للدراسات الثقافية تأسس في مدينة برمنجهام البريطانية، يهتم بالدراسات الثقافية، ويعود الفضل لظهور مصطلح الدراسات الثقافية للمركز: " فقد ظهر مصطلح الدراسات الثقافية لأول مرة سنة 1964 م عندما أسس ريتشارد هوجارت مرکز برمينجهام للدراسات الثقافية المعاصرة، وصاحبه بالمركز ستيورت هول وزملائه، حيث تمكنوا  من تنمية حركة فكرية دولية توظف الماركسية في الدراسات الثقافية".[18]

وقد تطورت الدراسات الثقافية بعد ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية لتشمل الاقتصاد والسياسة والصناعة وحتى الثقافة الشعبية، فقد ركزت هذه الدراسات الثقافية على موضوعات الاجتماع والتكنولوجيات.[19]

وقد أفاد النقد الثقافي من المراكز الثقافية الثلاثة أيما افادة، ذلك إله جمع بينها وكون مجالا معرفيا يجمع بين مضامين المدارس الثلاثة، وجعل من النسق الخفي داخل النصوص الأدبية مادته النقدية، على اعتبار أن النص ليس نتاج الكتابة فقط بل هو تراكم معرفي يظهر بين كلمات هذا النص، ليتكفل النقد الثقافي باستخراج هذه المعارف.

3-روافد النقد الثقافي:

لم يقتصر النقد الثقافي على الدراسات التي اهتمت بالثقافة ونقدها فحسب، بل اهتم بتفسير الظواهر التي تحيط بالظاهرة البشرية على اعتبار إنها ذات أهمية في الجانب الاجرائي للنقد الثقافي، خاصة العلوم الثلاثة: السيميائية وعلم النفس وعلم الاجتماع.

 3-1-علم النفس:

أفاد النقد الثقافي من نظرية سيغمند فرويد في التحليل النفسي وظهر ما يعرف بالنقد الثقافي النفسي، حيث ركز فرويد على الجوانب النفسية في العمل الأدبي ومدى تأثر هذ العمل باللاشعور والعقل الباطن مبينا أن في داخل كل منا عقلا باطننا قد يتفوق على العقل الواعي بسبب كبح هذه الأصوات في العالم الواعي، فإنها تعود للظهور في النصوص الأدبية.[20]

3-2- علم الاجتماع:

ظهر النقد الثقافي الاجتماعي نتيجة تأثر النقاد بأعمال إيميل دوركايم وكارل مارکس حيث: "كان نقد العلامات الاجتماعية الذي أنجزه کارل مارکس يقوم على افتراض أن القيم الثقافية نفسها إنما تكون أكثر فهما وأشد تأثيرا من خلال العلاقة بفكرة الطبيعة الاجتماعية للحياة الإنسانية".[21]

كما أشار کارل ماركس إلى وجود بني محجوبة لا واعية يحاول كل مجتمع اخفاءها وبخاصة الرأسمالية والصناعية فهي تبقي هذه البنى معماة ومخفية حتى تتمكن من إعادة انتاجها لتتحكم في المجتمعات.[22]

3-3-السيميائية:

 يعتبر علم العلامة أو السيميائية العام الثالث الذي أفاد منه النقد الثقافي، ذلك أنه جمع بين العلوم السابقة بالإضافة إلى عالم الإشارة ولغة الجسد، والعلامات الاشارية غير اللغوية التي تترجم في النصوص وتظهر کرسائل ضمنها.

وما تقدمه لنا السيميائية هو فك لتلك العلامات والإشارات وتحليل النصوص وفق الثقافات المختلفة، لذا لا يستغني النقد الثقافي عن السيميائية كجزء في الجانب الاجرائي والكشف عن المضمرات داخل النصوص.[23]

4-الأنساق المضمرة:

4-1-تعريف النسق المضمر:

المضمر لغة:

 المضمرة في اللسان العربي مؤنث المضمر وهما من الجذر اللغوي ضمر. وجاء في معجم مقياس اللغة بأن أحدهما يدل: «ضمر الضاد والميم والراء أصلان صحيحان: على دقة في الشيء، الآخر يدل على غيبة و تستر»[24] كما جاء غي معجم لسان العرب العرب فيما يخص هذا الجذر اللغوي وما تعلق به : «تضم وجهه: انضمت جلدته من الهزال، والضمير: السر وداخل الخاطر، والجمع الضمائر (...) الضمير الشيء الذي

تضمره في قلبك، تقول: أضمرت صرف الحرف إذا كان متحركا فأسكنته، وأضمرت في نفسي شيئا، والاسم الضمير، والجمع الضمائر. والمضمر الموضع والمفعول (...) قال الأعشى[25]: أرانا إذا أضمرتك البلاد نجفي وتقطع منا الرحم».[26]

 من هذه التعريفات اللغوية السابقة لمصطلح مضمر يمكننا تحديد ما ينطوي عليه من معاني وفق الآتي:

-الدقة

-السر والخفاء

-الغياب بالموت أو السفر.



فيكون معنى المضمر في اللغة موضع الدقة أو موضع الخفاء والستر أو موضع الغياب فالمضمرة وفق هذا الأساس تعرف بمكمن الخفاء والسر ومكان الغياب، وبالجمع بين المصطلحين "النسق " و "المضمرة" يمكن أن نحدد مفهوم "النسق المضمر" في هذا السياق أنه «كل دلالة نسقية مختبئة تحت غطاء الجمالي ومتوسلة بهذا الغطاء لتغرس ما هو غير جمالي في الثقافة[27]» ، كما يعرفه عبد الله الغذامي بقوله: «ذو طبيعة سردية، يتحرك في حبكة متقنة، لذلك فهو خفي ومضمر وقادر على الاختفاء دائما، ويستخدم أقنعة كثيرة أهمها قناع الجمالية اللغوية، وعبر البلاغة وجمالياتها تمر الأنساق آمنة مطمئنة من تحت هذه المظلة الوارفة[28] » فالنسق المضمر إذن سردي ويتحرك بحبكة متقنة و يتخفى آمنا تحت أقنعة جمالية لغوية كانت أم بلاغية. بالإضافة إلى خاصية التخفي تحت القناع والغطاء يضيف المفهوم التالي الاختفاء تحت الترسبات فهو إذن مجموعة من الترسبات تتكون عبر البيئة الثقافية والحضارية، ويتقن الاختفاء تحت عباءة النصوص المختلفة تمارس على الأفراد سلطة من نوع خاص وهي حاضرة في فلتات الألسن والأقلام بصورة ألية، وينجذب نحوها المتلقون دونما شعور منهم، لأنها أصبحت تشكل جزءا هاما من بنيتهم الذهنية والثقافية»[29]  على الرغم من الاختلاف الموجود في بعض ألفاظ هذه المفاهيم المذكورة سابقا إلا أنها تتفق كلها حول مفهوم النسق ومميزاته، فهناك من يطلق عليها أحيانا تسمية أقنعة والأخر أغطية وترسبات، حيث تبدو هذه الترسبات في دلالتها أكثر سمكا من الأغطية والأقنعة والعباءات وهذا ما يجعل مهمة الكشف عن ما تخبئه من أنساق تستلزم التنقيب والحفر وهي مهمة أصعب من كشف ونزع الغطاء أو القناع. تطلق عليها كذلك تسمية «الأنساق الثقافية تاريخية أزلية وراسخة ولها الغلبة دائما، وعلامتها هي اندفاع الجمهور إلى استهلاك المنتوج الثقافي المنطوي على هذا النوع من الأنساق وكلما رأينا منتوجا ثقافيا أو نصا يحظى بقبول جماهيري عريض وسريع فنحن في لحظة من لحظات الفعل النسقي المضمر»[30] يجب التحرك إذن للبحث عن ذلك النسق المضمر فسرعة الاستجابة لاستهلاكه تدل على فعاليته وغليته الدائمة وهو أمر يستدعي «كشفه والتحرك نحو البحث عنه، فالاستجابة السريعة والواسعة تنبئ عن محرك مضمر يشبك الأطراف ويؤسس للحبكة النسقية[31]» ، وهنا يكمن لب البحث عن الأنساق وجوهره، فربما يكون النسقي ثويا في الخطابات اللغوية كما هو الحال في الرواية التي نحن بصدد دراستها والكشف عن أنساقها.

كما يمكن أن تكمن هذه الأنساق كذلك في «الأغاني أو في الأزياء أو الحكايات والأمثال مثلما هو في الأشعار والإشاعات والتكت. كل هذه وسائل وحيل البلاغة اجمالية تعتمد على المجاز والتورية وينطوي تحتها نسق ثقافي ثار في المضمر ونحن نستقبله التوافقه السري وتواطئه مع  نسق قديم منغرس فينا (...) وهو جرثومة قديمة تنشط إذا ما وجدت الطقس الملائم»[32]. ونستنتج من كل هذه المفاهيم أن النسق المضمر ليس إلا تواضعا اجتماعيا ودينيا وفلسفيا وأخلاقيا وجماليا وغيرها من مسميات الموضوعات غير معلنة مترسبة ومتمركزة في اللاشعور الجمعي عبر الزمن.

 

4-2-خصائص الأنساق المضمرة:

حدد النقاد والمشتغلون في النقد الثقافي خصائصا أربعة للنسق المضمر، حددها الغذامي في كتابه (النقد الثقافي)، بقوله: يتحدد التسوق عبر وظيفته، وليس عبر وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدد ومفيد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر، ويكون ذلك في نص واحد، أو في ما هو في حكم النص الواحد. ويشترط في النص أن يكون جماليا، وأن يكون جماهيريا. ولسنا نقصد الجمالي حسب الشرط النقدي المؤسساتي، وإنما الجمالي هو ما اعتبرته الرعية الثقافية جميلا[33].

وقد أشار لومان نيكولاس Niklas Luhmann في كتابه لمدخل إلى نظرية الأنساق، إلى هذا الترابط بين النسقين الثقافي والاجتماعي، بقوله: " الثقافة يجب أن تتماس ، أي أن يتم إعدادها اجتماعيا، وتكون قابلة للاستعمال الاجتماعي[34].

 تداخل الثقافة في النسق الشخصاني تكون عبر التربية الاجتماعية : الأفراد يجب أن يتكيفوا اجتماعيا عبر اللقاءات الاجتماعية لكي يتمكنوا من إنجاز مساهمتهم في نسق الفعل.[35]

الخفاء والتجلي للأنساق الثقافية:

يتواجد النسق الثقافي في النصوص الأدبية عبر مظهرين هما: النسق الظاهر المعلن والنسق المضمر الخفي، وهما متلازمان بحيث لا ينفك أحدهما يجادل الآخر ويناقضه، ولا تتحقق الوظيفة النسقية "إلا في وضع محدد ومقيد، وهذا يكون حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب، أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضا وناسخا الظاهر[36] ، ويمكننا القول إن العلاقة بين النسق الظاهر في النص

الأدبي عبر ظهوراته اللغوية، والنسق المضمر في ضوء علائقه بالمرجعيات والشيفرات الثقافية، تبدو علاقة اعتباطية بحيث يولد النسق الجمالي أنساقا سيميائية ثقافية مفتوحة" .

إن لعبة الظهور والتخفي التي يمارسها النسق داخل النص الأدبي هي محور الاهتمام في النقد الثقافي، فكل نسق ظاهر يخفي نسقا مستترا وكامنا، لكن مدار الاهتمام في الحقيقة هو النسق المضمر لا الظاهر، فلا ختم بالنسق الظاهر إلا بقدر الكشف عن المضمر المتواري خلفه، من خلال الإشارات والإيحاءات التي يحملها في تشكيلة العلني، "فالظاهر يعلو القول في النص الثقافي، في حين يتوارى المضمر ويتراجع ليقبع في باطن النص ") فالنسق المضمر خطر، وتكمن خطورته في أنه كامن، يمارس لعبته بعيدا في هدوء دون رقيب، بل هو "جرثومة قديمة تنشط إذا ما وجدت الطقس الملائم ")، وتتخذ المضمرات أهمية كبيرة، وتضطلع بدور جوهري، وتستحق - مهما بلغت غرابة وصفها - عناء الخوض في تحليلها وتفسيرها، وهي مهمة ليست بالسهلة، بحيث يحتاج الناقد فائضا من العمل التأويلي ومهارة تحليلية، تعضدها ثقافة واسعة ودراية كبيرة بفنون الخطاب وآليات التأويل "فالنسق بوصفه عنصرا مركزيا في الحضارة والمعرفة والثقافة والسياسة والمجتمع، إذ يتسم من حيث هو نظام بالمخاتلة واستثمار الجمالي والمجازي، ليمرر جدلیاته ومضمراته التي لا تنكشف إلا بالقراءة الفاحصة، ولا يمكن استبارها إلا بتكوين جهاز مفاهیمي ومعرفي متكامل "[37])، كما تزداد هذه المهمة صعوبة حينما نعلم بأننا نتعامل مع نسق يجيد التحايل والتمظهر، والتخفي في أعماق النص عبر أقنعة كثيرة منها "قناع الجمالية اللغوية، وعبر البلاغة وجمالياتها تمر الأنساق أمنة مطمئنة من تحت هذه المظلة الوارفة "[38])، والأنساق لها قدرة على التكرار والتجدد والتوالد "فتشظيات النسق داخل البني النصية يسمح بتشكيل أنساق أخرى مولدة بالغة التداخل والجاذبية، فهي أنساق شبيهة بكيمياء الخلايا على حد تعبير بارسونز، وينطبق عليها أيضا وصف الصندوق الأسود، بحيث لا يمكن التعرف على على باطن النسق كما يقول بارسونز نفسه، ولايمكن تحليله لأنه شديد التعقيد، كما لايمكن استنتاج حتمية وجود ميكانيكية ما تفسر موثوقية النسق، وإمكانية تقديره، والتنبؤ مخرجاته لدى مدخلات محددة معروفة، إلا من خلال انتظام علاقات النسق الخارجية [39].

والحقيقة أننا - ونحن بصدد الدراسة النقدية الفاحصة للنصوص الأدبية - نتعامل بالأساس مع المستوى اللغوي الذي يحمل ثقافة النص، ومنه فدراسة الأنساق اللغوية مهمة جدا لإدراك المضمر والظاهر منها، فالاهتمام بدراسة الأنساق اللغوية داخل الثقافة، يمنح الثقافة معناها الجوهري لا المعنى الظاهري المزيف، لأنه وحده الذي يؤسس للاتصال الجمعي، ويؤطر لنظام الخطاب داخل الثقافة، فوحدها إذن المقاربة اللغوية الثقافية تسمح بفهم الأنساق اللغوية بماهيتها المزيفة والمعلنة، وبإيديولوجيتها الحقيقية المضمرة"[40].

 

 

 

5-أنواع الأنساق المضمرة:

يوجد نوعان من الأنساق، أنساق أصلية ثابتة وراسخة وأنساق هامشية معارضة ورافضة وهذا حسب تحديد "عبد االله الغدامي" في كتابه النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية) ، فالأنساق تنقسم من منظوره إلى:

أ- أنساق أصول:

إن كلمة أصل هي جامعة تعمل كدال رمزي على منظومة من الصفات الجامعة التي تختبئ في المضمر فإنها لا تنبئ عن نفسها إلا في وقت الحاجة مما يجعلها ملجأ نفسيا ذاتيا تحظر لحسم اللحظات الغامضة والحرجة التي لا يملك الإنسان فيها لغة أخرى لمواجهة الموقف والتعبير عنه، وتأتي هذه الكلمات في المخزن العميق لتتكلم بالإنابة عنا[41].

 بمعنى أنه إذا توفرت هذه الصفات المضمرة التي تكون مخزنة في المضمر فهذه الصفات لا تظهر إلا عند حاجتنا لها أو استعمالها، فهذه الأصول قديمة قدم اللغة ذاتها، فعن طريق استخدامنا المتكرر والمستمر فنحن كذا نعيد تمثيل القيم الذهنية المترسخة في اللغة دون أن نعي بها، وهذا ما يجعلنا سجناء النسق.[42]

ب-الأنساق الهامشية:

وتسمى أيضا بأنساق الرفض والمعارضة «نجد أمثلة منها في القصص المروية في حكايات الشعراء وأخبارهم وهي قصص ليست حقيقة وهذا هو ما يمنحنها قيمة ثقافية إذ أنها هي لسان حال الثقافة في الاعتراض والنقد ومحاولة التعرية»[43].

وعليه فالثقافة إذا كانت عبارة عن كل جامع لأنساق مختلفة فلابد لهذه الأنساق أن تتعارض وتصارع فيما بينها، فالأنساق تتشكل عن طريق الاختلاف والتعارض، هذا بالنسبة للتصور الذي قدمه لنا "الغدامي" وهناك تصور آخر وهو ما ذهب إليه "كليمان موزان" الذي يرى أن «الظاهرة الأدبية، التاريخ الأدبي مجرد نسق فرعي، ضمن نسق کلي، هو الثقافة، على اعتبار أنها نسق اجتماعي، كل يكثف أنساق فرعية آخر كالفن والقانون والسياسة واللغة[44]»، فهو يرى أن النسق لا يتحدد بذاته إنما يكون مرتبط بمرجعيات أخرى، فهي غير مكتفية بذاتها فتصور "موزان" النسقي يدعو للتخلي عن فكرة التطور، (فالتحليل النسقي حسب كليمان يفضي بنا إلى فكرة التقدم، بل إلى فكرة الحركة التي تتصل بها فكرة السكون اللتان تعتبران خاصية الأنساق ...).[45]



[1] معجم العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تح: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار الهلال مصر د ط، دت، ج5، ص:85.

[2] لسان العرب، ابن منظور، ص: 179.

[3] المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، المكتبة الإسلامية اسطنبول تركيا، ج1، طا، دت، ص

918-919.

[4] التشابه والاختلاف نحو منهجية شمولية: محمد مفتاح المركز العربی بیروت لبنان، ط1، 1996 م ص: 156، 157

[5] القراءة النسقية، سلطة البنية ووهم المحايثة: أحمد يوسف، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة، الجزائر، ط1، 1428 ه 2007 م، ص: 116.

[6] اللسانيات النشأة والتطوير، أحمد مومن، ديوان المطبوعات الجامعية بن عكنون، د ط، 5005م، ص:43.

[7] جدلية الأنساق الثقافية المضمرة في النقد الثقافي، سحر كاظم الشجري دار الحوار، سوريا، ط1، 2017 م ص: 75.

[8] تاويل الثقافات؛ كلود غيرتز، تر محمد بدوي مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2009 م، ص: 221.

[9] تمثلات الأخر، صورة السود في المتخيل العربي: نادر کاظم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط 1، 2014، ص 95.

[10] النقد الثقافي، عبد الله الغذامي، ص: 71.

[11] بنظر النسق الثقافي، قراءة في أنساق الشعر العربي القديم، يوسف عليمات، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع إربد وجدارا للكتاب العلمي للنشر والتوزيع، عمان الأردن، ط1، 2009، ص: 124.

[12] المقامات، السرد والأنساق الثقافية، عبد الفتاح كيليطو، تر: عبد الكبير الشرقاوي دار توبقال الدار البيضاء المغرب، ط1، 2000، ص: 8.

[13] القراءة النسقية، سلطة البنية ووهم المحايثة: أحمد يوسف، ص: 39-38.

[14] الجشطالت، و الجشطالتية: كلمة ألمانية تعني الشكل والصقة والنمط و ارتبطت بعلم النفس خاصة الأدرك قانونها الأساسي " الكل أكبر من مجموع أجزائه.

[15] النقد الأدبي الأمريكي: انسان ليتش، تر محمد يحي، المجلس الأعلى للثقافة والمشروع القومي للترجمة القاهرة مصر، طا، 2000 م ص: 109.

[16] النقد الأدبي الأمريكي ، ليتش ، ص: 89.

[17] النقد الثقافي، فضايا وقراءات وعبد الفتاح العقيلي، مكتبة الزهراء الرياض، السعودية، ط1، 2009م، ص: 90.

[18] النقد الثقافي فضايا و قراءات ، عبد الفتاح العقيلي ، ص: 91.

[19] المرجع نفسه، ص: 92.

[20] المرجع السابق، ص: 45.

[21] اسئلة النقد الثقافي، مصطفى الضبع، مؤتمر أنباء مصر في الأقاليم، المنيا مصر، أيام 26 - 27 ديسمبر 2003 ، ص: 42.

[22] المرجع نفسه، ص 28.

[23] المرجع السابق، ص 07.

[24] ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، ج 3، ص 371.

[25] الأعشى: (57 ه/629م) ميمون بن قيس بن جندل، من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، أبو البصير، المعروف بأعشى قيس ويقال له أعشى بكر بن وائل، الأعشى الكبير: من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات. (...) كان غزير الشعر يسلك فيه كل مسلك، وليس أحد مما عرف قبله الشعر منه. وكان يغني بشعر، فسمي (صناجة العرب) قال البغدادي: كان يفد على الملوك ولاسيما ملوك الفرس، لذلك كثرت الألفاظ الفارسية في شعره. عاش عمرا طويلا، أدرك الإسلام ولم يسلم ولقب بالأعشى لضعف بصره وعمى في أواخر عمره، مولده ووفاته في قرية (منفوحة) باليمامة فيها داره وقربه، جمع شعره في ديوان سمي (الصبح المنير) ترجم بعض شعره إلى الألمانية المستشرق الألماني جاير. انظر: خیر الدين الزركلي: الإعلام، دار العلم للملايين، لبنان ج7، ط5، 1970

[26] ابن منظور الافريقي: لسان العرب، فصل الضاد المعجمة، ج 4، ص ص 2606-2607.

[27] عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف: ثق ثقافي أم نقد أنبي ؟، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1، 2004، ص 33

[28] عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الساق الغاية، ص 79.

[29] إسماعيل خلباص حمادي، إحسان ناصر: "النقد الثقافي مفهومه، منهجه إجراءاته، مجلة كلية التربية، جامعة العراق، ع13، 2013، ص 17.

[30] عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية، ص ص، 79-80.

[31] المرجع نفسه، ص 80.

[32] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[33] عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية، ص 97.

[34] مكتبة التربية العربي لدول الخليج، معجم العلوم الإنسانية، الكويت، المركز العربي للبحوث التربوية، الطبعة الأولى، 2013، ص 343.

[35] عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية، ص 99.

[36] محمد الشكيري، دروس في التركيب، دار الأمان للنشر و التوزيع، الرباط، ط 1 ، 2005، ص 71.

[37] يوسف محمود عليمات، النقد النسقي، ص 09.

[38] حفناوي بعلي، مدخل نظرية النقد الثقافي المقارن، الدار العربية للعلوم، منشورات دار الاختلاف، ط1، 2007، الجزائر، ص 50.

[39] يوسف محمود عليمات، النقد النسقي، ص 21.

[40] عبد الفتاح أحمد، قراءة النص و سؤال الثقافة، عالم الكتب الحديثة، 2009، ص 92.

[41] عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية، ص 85.

[42] المرجع نفسه، ص 88.

[43] المرجع نفسه، ص 89.

[44] خالد زيغمي، نحو أفق دراسة نسقية للظاهرة الأدبية و تاريخ الأدب، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف2، مجلة العلوم الاجتماعية، ع 23 ديسمبر 2016، ص 278.

[45] عبد الله الغذامي: النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية، ص 78.

NomE-mailMessage