JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
Home

أثر وانعكاسات التعددية الطائفية على الأمن المجتمعي في العراق بعد الاحتلال الامريكي

خط المقالة

 

تمهيد:

 تحولت التعددية الطائفية في العراق منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003 من مصدر لإثراء المجتمع إلى مشكلة أمنية صارت تأرق الساسة العراقيين  خاصة و في كل العالم على العموم عانى من ويلاتها  الشعب العراقي الذي تعرض إلى التقتيل و التشريد و القهر و الفقر كما أن هذه المشكلة ما فتئت أن كان لها تأثير مباشر إقليميا و عالميا مما جعلنا نتطرق في هذا الفصل إلى أثرها و انعكاساتها على الأمن المجتمعي في العراق بعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003 حيث سنقسم هذا الفصل إلى ثلاث مباحث هي تداعيات التعددية الطائفية على الوحدة والأمن المجتمعي العراقي بعد 2003 ثم التعددية الطائفية و علاقتها بالتدخل الخارجي في العراق بعد 2003 و نختم هذا الفصل بآليات واستراتيجيات ادارة ومعالجة التعددية و الصراع الطائفي في العراق.

المبحث الأول: تداعيات التعددية الطائفية على الوحدة والأمن المجتمعي العراقي بعد 2003 .

هناك  تغير جلي بين التعددية الطائفية  قبل الإحتلال الأمريكي وأثنائه و حتى بعد خروجه، من حيث وجود إستقرار نسبي خلال فترة صدام، ثم حدوث تدهور في الإستقرار المجتمعي مع بداية الإحتلال، إلى أن وصل الأمر لنشوب حالة من الحرب الأهلية عام 2006. ويمكن إرجاع ذلك للإدعاءات بأن الإحتلال إتخذ مجموعة من التدابير والإجراءات التي تقنن التعددية الطائفية، مما قد يثير ذلك شعور الأطياف المختلفة تجاه بعضها البعض، وبالتالي يصبح لها إسهاما كبيرا في تعزيز العنف الطائفي في العراق.

 و قد شكل التنافس بين الشيعة والسنة في العراق محور الصراع السياسي في الدولة منذ سقوط الرئيس صدام حسين في عام 2003، فقد أعاقت التوترات الطائفية عمليات بناء الدولة وزعزعت إستقرار البلاد، كما أن الإجراءات التي إتخذتها الحكومات العراقية حتى الآن لم تؤد إلا إلى مزيد من إحتدام المزيد من الصراع السياسي، ومن ثم ترتب على هذه الإنقسامات إنتشار العنف الطائفي بين تلك الأعراق والديانات المختلفة. كما أن من أهم العوامل التي عززت العنف الطائفي في العراق هو الإحتلال الأمريكي، حيث أنه سعى إلى وضع نظام سياسي قائم على أساس طائفي وعرقي، ووضع دستورا جديدا مهد لوجود دولة رخوة ومفككة، وقد ترتب على ذلك إنتشار الفوضى في البلاد، وعدم ضبط حدودها، مما يسر الطريق لدخول عناصر مسلحة كان لها دور فعال في العنف الطائفي خاصة القاعدة وداعش والحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني.

المطلب الأول: تداعيات التعددية الطائفية على استقرار الدولة بعد 2003

     هناك خلط بين مفهومي العنف الطائفي وعدم الإستقرار السياسي في بعض الدراسات، وذلك بسبب أحداث العنف الطائفي التي تعد إحدى أهم مؤشرات عدم الإستقرار السياسي، لذلك أصبح المفهومان مترادفين، وبالتالي يصبح غياب العنف الطائفي يعني الإستقرار السياسي.

    ازدادت معاناة الدولة العراقية من ظاهرة عدم الاستقرار على نحو غير معتاد في المرحلة التي تلت عام  2003 و وقفت وراء استفحال هذه الظاهرة اسباب وعوامل متعددة، داخلية وخارجية ويضاف الى ذلك فإن أي محاولة للقضاء عليها تتطلب أيضا آليات على مختلف الأصعدة الداخلية والاقليمية والدولية.

سعت السلطات البريطانية منذ البداية إلى إقناع السنة، بأن الحكم والمناصب المتقدمة في الدولة بمرافقها المدنية والعسكرية، هي حق لهم وحدهم، وإن أية مشاركة للشيعة ستكون على حساب السنة، وبذلك نجحت السلطات في العهدين الملكي والجمهوري قبل عام 2003 في إضعاف التماسك الوطني. وبالتالي يهدف هذا الفصل للإجابة على تساؤلات الدراسة المتعلقة بدور نظام صدام حسين في تعزيز العنف الطائفي في العراق، ومعرفة طبيعة العنف الطائفي بعد مجئ الإحتلال الأمريكي. وفي حالة تغيره، يجب التعرف على الأسباب التي دفعت إلى حدوث هذا التغير، من خلال تتبع سياسات الإحتلال الأمريكي نتيجة  لوجود إدعاءات بتورط الإحتلال في تقنين التعددية الطائفية في العراق.

أولا: الاستقرار السياسي في العراق. 

    انهار النظام السياسي العراقي بعد عام 2003 وحل بدلا عنه نظام جديد يقوم على التبادل السلمي للسلطة والتعددية الحزبية والالتزام بالدستور، الى هذه اللحظة والنظام السياسي العراقي مهيئ للعمل والاستقرار، لكن تطبيق النصوص الدستورية يختلف عن كتابتها، فعلى حد قول الباحث (عامر حسن فياض) ان النهج الذي اتبعه النظام السياسي العراقي عبر اتخاذه للمحاصصة والتوافقية كوسيلة لتسلم السلطة ما بين المكونات السياسية قد انعكس سلبا على كل اركان النظام وعلى اداءه وطريقة عمله، كون المحاصصة قامت بتوزيع السلطة على اسس دينية وقومية ومذهبية، مما افقد النظام وحدة بناءه وانسجامه، وغائية العمل فيه التي كان من المفترض ان تكون موحدة ، حتى الاختلافات في الرؤى لم تكن في البرامج والاهداف مثل بقية الدول، بل صارت على شكل سباق وادعاء كل مكون سياسي بانه يمثل مكون مجتمعي، وبالتالي فهو يدافع عن مصالحه ضد مصالح المكونات المجتمعية الاخرى، وهذه الحالة ولدت صراع هوياتي داخل المنظومة العامة للبلاد ، افقدت النظام السياسي ديمومته واستقراره وانسجامه الوظيفي ، وصارت الوظيفة العامة وسيلة للكسب والثراء حتى لو على حساب الدولة ومؤسساتها واستقرارها[1].

ثانيا: الاستقرار الاقتصادي:

      يعد الاستقرار الاقتصادي احد علامات الاستقرار في اي دولة من دول العالم، كون الاقتصاد هو المعين الذي يمد السلطة السياسية بعناصر القوة والانسجام، والاقتصاد مهم جدا لتمويل مؤسسات الدولة واجهزتها. المختلفة، خاصة في البلدان التي تمر بحالة حرب او تعاني من مشاكل مجتمعية او تهديدات خارجية  العراق وعلى الرغم من كونه بلد كثير الخيرات ، الا انه بات يعاني من ضبابية في ملفه الاقتصادي، وهناك اسباب متعددة تقف وراء ذلك، لعل من بينها عدم وضوح وجهته الاقتصادية ، هل هي اشتراكية ام رأسمالية ام غير ذلك .

       فضلا عن ارتباط ملفه الاقتصادي بملفات اخرى غير مستقرة، سياسية وثقافية وامنية، وخارجية . ايضا فأن العراق مثله، مثل بقية الدول غير المتقدمة يعاني من احادية اقتصاده الريعي، الذي يعتمد بشكل شبه كامل على تصدير النفط دون ان تكون هناك تنوعات في مصادر الدخل، كما ان انفتاح الاسواق العراقية على البضائع المستوردة قد اخضع السوق المحلية لهيمنة وسيطرة التجار الاجانب ، وصار الاقتصاد الوطني اللعوبة بيد الدول الاخرى[2].

 


ثالثا: الاستقرار الاجتماعي .

       لقد كان لأزمة التعددية الطائفية العديد من الانعكاسات السلبية على النظام الاجتماعي في الدولة العراقية من تغيير بنية هذا الأخير بشكل جذري فأصبحت الأوضاع متدهورة وتختلف مظاهرها بين مكونات المجتمع حيث نلاحظ:

1- ضعف المستوى الثقافي حيث أدت الأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة التي عاشها المواطن العراقي العقود طويلة في ظل عدة حروب وحصار واحتلال أمريكي التي فئات واسعة من المجتمع قيد الانشغال بهموم الحياة أسيرة قوالب الثقافة الطائفية التي قدمتها الأحزاب والحركات الدينية والقومية لتزيد من التراجع الثقافي، وضعف الوعي لدى أفراد المجتمع، و بترکه عرضة للانسياق خلق الزعامات الطائفية التي ظهر في هذه المرحلة[3].

2- تغير التركية الديمغرافية لكثير من المدن والمناطق السكانية في مختلف أرجاء العراق ما يعني اختفاء المناطق ذات السكن المختلط والمشترك، لاسيما بين السنة والشيعة[4].

فهذه الظاهرة ساهمت بشكل واضح في غياب الوعي الثقافي لدى أفراد المجتمع العراقي بل قوات من النزعة الطائفية بحيث عدم تقبل طرف للآخر في حياته الاجتماعية معه من ثم الابتعاد والتنافر بينهم على أساس الدين المعتقد الذي رسخته الزعامات الحركات الدينية في البلاد من الشيعة و السنة.

3- الخسائر البشرية وهجرة المواطنين بحيث خلفت الأزمة أزمة العنف الطائفي - مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين من مختلف مكونات المجتمع العراقي، التي تعدد الأشكال المسببة لهذا الوضع كالإبادة اجتماعية، الحروب الأهلية، القتل والاغتصاب وغيرها من الأشكال الإجرامية.

كما كانت سببا في تهجير قسري، ونزوح بين (2 إلى 4.5) ملايين مواطن ونزحهم داخل وخارج العراق بالإضافة إلى هجرة الكفاءات والنخب المتعلمة التي طالتها الاستهدافات الطائفية وتزايد خطر الاغتيالات المنظمة ضدهم كونهم الطبقة المثقفة في البلاد، بأمن لها التوقيف بين تلك الأطراف المختلفة فكريا وعقائديا.

4- التهميش والإقصاء حيث تعرضت بعض المكونات في العراق الإقصاء والتهميش، واستمرار تطبيق قوانين ذات بعد طائفي عليهم وتزايد السخط الشعبي أوساط العديد وبروز ظاهرة الاحتجاجات والمظاهرات في عدد من محافظات وسط شمال العراق المطالبة بإنهاء الإقصاء والتهميش الواقع عليها، وقوبلت بالرفض والقمع وإنهاؤها بقوة السلاح مما زادا حدة الاحتقان الطائفي فيها.

5- انتشار الفتاوي الدينية حيث تشكل صدور الفتاوي الدينية ذات الصيغة الطائفية سمة ظاهرة في مرحلة الاحتلال ومن بعده، وتنوعت هذه الفتاوي بالرغم من اختلاف مبرراتها بين استجابة دماء أبناء الطوائف الأخرى واستحلال أموالهم وتحريم التعامل معهم اجتماعيا بحيث صارت الفتاوى الدينية التي تطلقها الزعامات والمراجع الدينية مرتكزا أساسيا للجماعات وللأفراد في ممارسة العنف ضد المكونات الأخرى[5].

المطلب الثاني: تداعيات التعددية الطائفية على الصراع الاثني و العنف الطائفي في العراق بعد 2003.

      إختلف وضع العنف الطائفي بعد مجئ الإحتلال في أبريل 2003، حيث أنه مع أيامه الأولى شهد العراق موجة من حروب العصابات المستمرة، لكن هذه الحروب لم تستند إلى أية مرجع طائفي أو مذهبي مثلما كانت عليه وقت الحرب الأهلية (2006-2008)  .

فقد بدأت حروب العصابات تتكثف منذ أغسطس 2003، وكان أبرزها يتمثل في الهجوم بالقنابل على السفارات المختلفة، هجوم على مقر الأمم المتحدة وإغتيال مبعوث الأمم المتحدة، قيام الميليشيات التابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر بشن هجمات على قوات الإحتلال، وحدوث العديد من التفجيرات بالقنابل والسيارات الملغومة وحوادث لإطلاق النار،[6]  تلك الأحداث تدل على أن الأطياف العراقية المختلفة كانت منشغلة في عملية مقاومة الإحتلال أكثر من مقاومة بعضهم البعض.

      إلا أن طبيعة العنف إتخذت مسارا مختلفا فيما بعد مع بداية عام 2006، حيث جاءت تفجيرات سامراء، بتاريخ 22/2/2006، في وقت وصل فيه الإحتقان الطائفي إلى درجات غير مسبوقة، تجسدت في الكشف عن وجود فرق موت داخل وزارة الداخلية تستهدف أبناء الطائفة السنية، في ظل أزمة تشكيل الحكومة التي لم تفلح الأحزاب السياسية في التوصل إلى تسوية بشأنها بعد أكثر من شهرين على إنتخابات عام 2006، وتدل هذه التفجيرات على حدوث تغير نوعي في شكل الأهداف التي يختارها من يلعبون على وتر الطائفية داخل العراق، حيث تطوروا من إستهداف الأشخاص إلى إستهداف الرموز الدينية التي تتمتع بقداسة خاصة، مثل ضريح علي الهادي والحسن العسكري المقدس لدى الشيعة والسنة في العراق لكونه يقع في مدينة سنية (سامراء) ويزوره الشيعة من كل أنحاء العراق[7].

ومن أهم مؤشرات العنف الطائفي في العراق زيادة عدد القتلى على أساس الهوية، والسيطرة الوهمية التي كانت تقتل المواطنين على أساس إنتمائهم العرقي أو المذهبي، وتفجير دور العبادة للطوائف المختلفة، وما تبعها من حرب الهاونات داخل بغداد بين مناطق السُنة والشيعة، كذلك عمليات التهجير القسري الواسعة من منطقة إلى أخرى على أساس عرقي وطائفي.

ü     القتل على أساس الهوية:   تفيد الإحصاءات التي تناقلتها وسائل الإعلام أن أعمال العنف في العراق كانت تحصد نحو 30 قتيلا كل يوم خلال عامي 2003 و2004، ثم أخذت في الإرتفاع مع نهاية عام 2005 لتصل إلى 50 قتيلاً، وازدادت إلى أكثر من 100 جثة في اليوم مع منتصف عام 2006 بعد تفجيرات سامراء، والأمر الخطير أن تلك الأعمال تقيد ضد مجهول يعرف عادة بعصابات الإرهاب التي تمثل وتنكل بالجثث.[8]

      ووفقا لأرقام البنتاغون إرتفع عدد القتلى المدنيين العراقين من 500 قتيل في بداية عام 2006 إلى حوالي 3700 قتيل في بداية 2007 مع تصاعد أعمال العنف الطائفي، لكن العدد بدأ يتناقص على نحو متقطع إلى 2000 قتيل في منتصف عام 2007، وقرابة 600 قتيل في بداية 2008.[9]

وفي إعتراف صريح بتصاعد أعمال العنف الطائفي في العراق في ظل حكومة نوري المالكي في أواخر عام 2006، أكد تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية إرتفاع عدد الهجمات الاسبوعية إلى ما يزيد عن 1000 هجوم خلال عام 2006، وإرتفاع المعدل اليومي للضحايا إلى ما يزيد على 140 قتيلاً، ونوه البنتاغون إلى أن مساعي الحكومة في مجال المصالحة لم يكن لها أي تأثير على تهدئة أعمال العنف الطائفي، هذه الأرقام قد نرجعها إلى غياب دور الدولة القومية في إحتواء الأطياف المختلفة بها على إثر ما سببه الإحتلال في سقوط مؤسسات الدولة، وضعف قدرتها على النهوض مرة أخرى من أجل إحتواء الأزمة.

ü     التهجير القسري:  من أخطر المظاهر التي ترتبت على عملية الإقتتال بين الطوائف في العراق، التي يرى البعض أنها تخدم وتسهل في النهاية مخطط تقسيم العراق إلى كيانات عرقية وإثنية، ما يطلق عليه ظاهرة التهجير القسري، وهي الظاهرة التي تعني إجبار أتباع طائفة معينة إلى ترك المناطق التي بها أغلبية من أتباع الطائفة الأخرى حتى لا تتعرض للقتل.

     ونتيجة للعنف الطائفي الذي اشتعل بعد تفجيرات سامراء، فر آلاف من السنة من مناطق الشيعة إلى مناطق ذات أغلبية سُنية، وهكذا الأمر بالنسبة للشيعة. ومع صعود العنف الطائفي السني الشيعي إلى ذروته في عام 2006، فر آلاف من الأقليات تجنب للتطهير الإثني الذي كان يجري لإقامة أحياء سنية وشيعية متجانسة، ولاسيما في بغداد، حيث فرت الأقليات إلى شمال العراق كالمسيحيين والصابئة بالإجبار، وقد وصل عدد المهجرين قصريا من مناطقهم إلى مناطق إخرى إلى أكثر من 2 مليون مهاجر. وقد أشار تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة للعراق إلى أن عدد النازحين داخليا بلغ حوالي مليون فرد منهم 148 ألف قبل 2006، و800 ألف بعد 2006.[10]

     ودلت التقارير والتقديرات على أن العنف الطائفي الذي شهده العراق كان سببا لإكراه 25 – 30% من السكان على هجر ديارهم إما داخليا أو خارجيا. والجدير بالذكر أن أغلب حالات النزوح كانت ناجمة عن العنف الطائفي المستتر، إذ ذكرت المنظمة الدولية للهجرة أن 88% من النازحين داخليا الذين سجلوا مع المنظمة قد تم تهجيرهم على أساس هويتهم الطائفية والعرقية.[11]

ü     الاعتداءات على دور العبادة: على صعيد الصراع السُني الشيعي، بدأت الخلافات تتصاعد على أثر تصاعد الإتهامات الصريحة المتبادلة بتعمد إستهداف كل منهما الاخر إلى أن تحولت هذه الإتهامات إلى قتال مادي على أرض الواقع، ورغم المواجهات الكثيرة بين الطائفتين، فإن الصراع لم يأخذ مسلكا خطيرا إلا بعد ما يسمي "بحرب المساجد في العراق" عقب تفجير عبوتين ناسفتين في ضريح الإمامين في سامراء، وما تبع ذلك من هجمات الميليشيات الشيعية على المساجد السُنية في كل أنحاء العراق.

وقد بلغ عدد المساجد السنية التي تعرضت للاعتداء 168 مسجدا تقريبا أغلبها في بغداد، و قتل أكثر من 1000 مواطن على الأقل بعد مرور 5 أيام فقط من تفجير سامراء. وعلى الجانب الشيعي، بلغ عدد الاعتداءات قبل تفجير المرقدين حوالي 80 اعتداء على حسينية ومزار شيعي خلال سنتين ونصف، أما عدد الاعتداءات بعد التفجير، فقد تراجع  إلى 69 اعتداء خلال ثمانية أشهر في جميع أنحاء العراق، كان أولها في مرقد الإمام علي (ض) في النجف، والذي يمثل أهم الرموز الدينية للشيعة في العراق[12].

 

المطلب الثالث: انعكاسات التعددية الطائفية على الهوية الوطنية بعد الاحتلال الأمريكي

     تعد الهوية الوطنية في اي دولة من دول العالم، هي الحبل الذي يربط ابناء الشعب ويشدهم بعضهم الى البعض، لذلك تحرص كل دولة، على رص هويتها الوطنية ومعالجة المشاكل والازمات التي تواجهها.

وتعد ازمة الهوية الوطنية من الازمات التي تم تجاوزها في الدول المتقدمة، بفعل استراتيجيات
وسياسات متعددة، لكنها في الدول غير المتقدمة لازالت في اوج اشتعالها، بسبب ظروف هذه البلدان
وسلوكيات انظمتها السياسية وطريقتها بالحكم.

     وفيما يخص العراق، فأن ما آلت اليه الامور فيه بعد عام 2003 باتت مشجعة على الفرقة والتناحر
 وتشجع وتدعم صعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية ، اذ تجد الهويات الفرعية اسباب
كثيرة تدعم تغولها وزيادة اهميتها لصالح انحسار وضعف الهوية الوطنية ، فالدستور الدائم يحتوي على
مواد كثيرة متعددة تصب بهذا المعنى ، مثل ديابجة الدستور التي تقول : بأننا (أي العراقيين) أردنا من
خلال هذا الدستور ان نستذكر الماضي الذي عشناه تحت حكم الانظمة الظالمة التي قتلت تلك الطائفة
وحاربت هذه القومية وابادت تلك المنطقة وكانت اقل عنفا وقسوة مع تلك المنطقة وتلك الطائفة.[13]

     وتستمر الديباجة في تعداد ورصد الاختلافات واثارة الاسئلة والاستفهامات حول اسباب تمييز النظام
السابق بين ابناء شعبه . والشيء نفسه نجده في المادة (3) التي جاء فيها : " العراق بلد متعدد القوميات
والاديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية، وملتزم بميثاقها، وهو جزء من
العالم الاسلامي " .[14]

     وكذلك الحال مع المادة رقم (9 أولا-أ) التي جاء فيها بأن " تتكون القوات المسلحة العراقية والاجهزة الامنية من مكونات الشعب العراقي" [15] .

     وظلت مواد الدستور تركز وتعدد الاختلافات المذهبية والقومية والقبلية وتشجيعها في اكثر من
موضع ودعمها متغافلة بانها ستكون على حساب العراقيين ووحدتهم، بدلا من ان تركز على الوحدة
والهوية الوطنية العراقية، كما في المادة ( 40اولا – أ) إذ جاء فيها: أن " أتباع كل دين أو مذهب أحرار
في ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية " ، وايضا فـي المادة ( 43 ) التي تقول: تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية وتهتم بشئونها.[16]

    وأداء الساسة أيضا فيه الكثير من السلبيات، بالأخص موضوعة المحاصصة التي ذكرناها في المطلب السابق ، بالإضافة الى الفساد الاداري والمالي.

المبحث الثاني:  التعددية الطائفية و علاقتها بالتدخل الخارجي في العراق بعد 2003

المطلب الاول: التعددية الطائفية في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق بعد 2003 .

    مارست الولايات المتحدة الأمريكية سياسات ممنهجة و مدروسة تجاه التعددية الطائفية في العراق بغية تحقيق مآربها أثناء الاحتلال و بعده حيث اتضحت معالم السياسات الطائفية للاحتلال الأمريكي للعراق و تسارعت وتيرتها و تمثلت في:

v      القضاء على مؤسسات الدولة: حيث يلاحظ أن غياب قدرة الدولة لعبت دورا مهما في تحول ولاء الأفراد من الدولة إلى الكيانات دون القومية، ففي ظل الإحتلال الامريكي للعراق في عام 2003، تم القضاء على مؤسسات الدولة وحلها، فقد كانت هي أولى الخطوات التي اتخذها الاحتلال ممثلا في بول بريمير – الحاكم المدني في العراق – كما قام بحظر حزب البعث وحل المؤسسات الامنية، بما فيها الجيش، في ماي 2003 الأمر الذي أدى إلى إعتماد الأفراد في المناطق الريفية على القبائل والعشائر من أجل الحصول على الأمن، أما في المناطق الحضرية، مثل بغداد، فقد تم الإعتماد على الميليشيات في توفير الأمن.

v      تقنين الطائفية: وبتشكيل مجلس الحكم المؤقت من قبل بول بريمر في يوليو 2003، اتضح البعد الطائفي والعرقي لسياسات الإحتلال، حيث تم توزيع عدد مقاعد المجلس، البالغ عددها 25 مقعدا، على أسس الطائفة والعرق بين معظم مكونات العراق المختلفة، ثم إمتد هذا التوزيع الطائفي إلى مختلف الوزارات التي تشكلت، وبالتالي فقد أصبحت الإعتبارات الطائفية هي المعيار الأساسي لإختيار الأعضاء وذلك لأول مرة في تاريخ العراق الحديث.

      وبالحديث عن الدستور الدائم الذي تم وضعه في ظل الإحتلال عام 2005، والذي يمثل مركز النزاعات الطائفية، فقد تم توزيع المناصب الرئيسية الثلاثة، وهي: منصب الرئاسة، ورئاسة الوزراء، ورئاسة البرلمان، بين الطوائف الثلاثة الأكبر حجما ممثلين في العرب السنة والشيعة والأكراد؛ حيث أن منصب رئاسة الوزراء، والذي يعد أهم المناصب الثلاثة نظرا إلى كون النظام السياسي العراقي نظاما برلمانيا، كان لصالح الطائفة الشيعية على الرغم من كونها في المرتبة الثانية من حيث  الحجم السكاني بعد الطائفة السنية، بينما ذهبت رئاسة الجمهورية إلى الطائفة الكردية على الرغم من كونها أصغر الطوائف الثلاثة حجما، لكن قد نُرجِع ذلك إلى أن ذلك المنصب هو شرفي بالأساس في النظم البرلمانية، لذلك تم إعطائه للطائفة الأصغر حجما، بينما أصبح منصب رئيس البرلمان للطائفة السنية على الرغم من أنها أكبر الطوائف الثلاثة حجما.[17]

v      السماح ببروز أحزاب طائفية وتبني نظام إنتخابي يشجع الطائفية: لقد أكدت الولايات المتحدة هذا التوجه عن طريق السماح ببروز الأحزاب التي تتبنى أجندة طائفية، مثل الأحزاب الكردية والشيعية، الأمر الذي جعل هذه الأحزاب تناقش القضايا الوطنية من منظور طائفي، وقد قامت هذه الأحزاب بدورها بتعميق الشعور والإنتماء الطائفي، لكي تصبح الطائفة كتلة إجتماعية سياسية تقاد وفقا لشعارات وزعامات طائفية. كما أنها تبنت نظاما إنتخابيا يقوم على التمثيل النسبي، وتم إعتبار العراق دائرة إنتخابية واحدة، مما يشجع الطائفية ويعزز الإنقسامات الإثنية والمذهبية، [18]وذلك لأن هذا النظام يسمح للمناطق المختلفة في أن تتنافس بقوة ضد بعضها البعض من أجل التمثيل في الحكومة، كما تعتمد نسبة تمثيل طائفة معينة في البرلمان على مدى مشاركة هذه الطائفة في الانتخابات، ومن ثم فإنه إذا قامت طائفة معينة بالاشتراك بنسبة تقل كثيرا عن نسبتها إلى باقي الطوائف المختلفة فإنها لن تحصل على التمثيل، وبالتالي فقد هدفت الولايات المتحدة إلى إقامة هذا النظام لتعزيز الطائفية.[19]

     والجدير بالذكر أن هذه السياسة سمحت بظهور قوى ساعدت على نشر الفتنة الطائفية في ظل الاحتلال والتي تتمثل بالأساس في كل من تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وفرق الموت الشيعية.

v      تحويل الأغلبية السنية إلى أقلية: تبنت الولايات المتحدة احصاء  يقوم على الادعاء بأن الشيعة العرب هم الغالبية، وترسيخ فكرة أن الأقلية السنية استأثروا بحكم البلاد على مدى ثمانين عاما، وأن الشيعة حرموا من حكم البلاد على الرغم من كونهم الأغلبية، إذ قدرت عددهم بحوالي 60% من إجمالي عدد السكان، بينما يبلغ حجم العرب السنة، وكذلك الاكراد، حوالي 20% من إجمالي عدد السكان.

     ومما يضفي مزيد من المصداقية على كون المسلمين السنة أكثر من الشيعة، أن النتائج التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات بشأن إنتخابات يناير عام 2005 بأن المقاطعين من السنة بلغت نسبتهم 40% وغالبيتهم من العرب، ومن ثم فقد عمدت الولايات المتحدة إلى إثارة النزاعات الطائفية عن طريق المبالغة في تمثيل العرب الشيعة وتهميش السنة.[20]

v      تبني الفيدرالية الطائفية:  من خلال تتبع قانون “إدارة الدولة الإنتقالية” لعام 2003، نجد أنه تم تحديد نظام الحكم بإعتباره جمهوريا اتحاديا فيدراليا ديمقراطيا، وبالتالي فقد أسست الفيدرالية في العراق، كما يلاحظ أنها حددت حدود الإقليم الكردي على أسس طائفية، وتنبع أهمية هذا القانون من تأثيره اللاحق على الدستور العراقي الدائم لعام 2005 الذي جاء فيه العديد من النصوص المشابهة بما ورد في هذا القانون.

v      رعاية إعلام طائفي: فقد قامت الولايات المتحدة بإلغاء وزارة الاعلام ولم تصدر أية قوانين أو تعليمات تنظم العملية الإعلامية، الأمر الذي أدى إلى بروز العديد من القنوات الفضائية على أسس عرقية وطائفية، حيث ظهرت قنوات فضائية شيعية كقناة الفرات، ومقابل ذلك ظهرت قنوات سنية كقناة الرافدين. وتقوم هذه القنوات بنقل الأحداث والأخبار من وجهة نظر عرقية وطائفية لمحاولة كسب الأفراد من خلال خطابات تكرس لمفهوم الطائفية والعرقية، الأمر الذي أدى إلى اضعاف الإنتماء الوطني والقومي.

 

 

المطلب الثاني: التعددية الطائفية و التدخل الايراني في العراق بعد 2003.

     تدخلت إيران بثقلها في العراق واستخدمت أهم، وأخطر، أدواتها في العراق وهي التأثير في الطائفة الشيعية العراقية ومليشياتها المسلحة، وقد تدخلت إيران بشكل كبير بعد الغزو الأمريكي للعراق في موضوعين أساسيين، الأول يتمثل في استغلال الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية لعملية نقل السلطة إلى العراقيين خلال الفترة الإنتقالية، والثاني يتمثل في العملية الإنتخابية العراقية، ولا نكاد نرى دليلا على مدى التوغل الذي قامت به إيران في العراق أوضح من اضطرار الولايات المتحدة للتباحث معها حول مستقبل العراق، وذلك في ظل الصدام القوي بين واشنطن وطهران بسبب برنامج طهران النووي آنذاك فيما يظهر على أنه اعتراف ضمني من الولايات المتحدة بعدم قدرتها على تحييد إيران في الشأن العراقي.

أولا: الإستراتيجية الإيرانية بعد الغزو الأمريكي للعراق

     في عملية نقل السلطة أدت الطريقة التي اتبعها الأمريكيون في هذا الشأن إلى ترسيخ المحاصصة الطائفية و العرقية بين المكونات العراقية، فالحاكم المدني للعراق بول بريمر أنشأ مجلس الحكم الإنتقالي في يوليو 2003 من المعارضين العراقيين البارزين لنظام صدام حسين، ولكنه جاء مجلساً طائفيا ذو صبغة شيعية  على حساب الطائفة السنية التي كانت تمتلك مقاليد الحكم في البلاد قبل عدة أشهر، ولا شك أن ذلك قد ترك آثارا سلبية في نفوسهم.

      وقد تلقفت  إيران تلك التطورات الناتجة عن الأخطاء الأمريكية في نقل السلطة ودعّمت الحكومات الشيعية وسارعت بالإعتراف بها وتوطيد العلاقات معها، وهو ما أعطى لطهران موطئ قدم في العراق في كل الحكومات التالية تقريبا، إذ عملت على ترسيخ القاعدة التي بدأتها الولايات المتحدة بتعزيز النهج الطائفي في اقتسام السلطة. وذلك من خلال قيامها بجهود واسعة في إزالة الخلافات العالقة بين التيارات الشيعية من أجل ضرب عصفورين بحجر واحد، الأول يتمثل في الحفاظ على أغلبية شيعية تأتي بحكومات حليفة لإيران، والثاني في كسب ولاء مختلف التيارات الشيعية على اعتبار أن إيران هي الوسيط المتوقع في أي خلاف شيعي-شيعي قادم. وذلك هو الدور الذي خوّل إيران لعب دور في إعادة تأهيل الجيش العراقي والتنسيق معه وتوقيع العديد من الإتفاقيات الأمنية[21].

     واستكملت إيران تنفيذ استراتيجيتها في العراق من خلال محاولة التحكم في العملية الإنتخابية العراقية عن طريق حلفائها العراقيين أنفسهم، وأول الإنتقادات جاءت على خلفية استبعاد عدد كبير من المرشحين السُنة البارزين قبيل انتخابات 2010 بموجب قرارات هيئة المساءلة والعدالة، التي تهتم بتطبيق العزل السياسي الذي أقر بحق أعضاء البعث السابقين، بعد ما قيل أنه جهود قيادات شيعية بارزة مرتبطة بطهران[22].

      وتواصل الدور الإيراني بعد انتهاء الإنتخابات لتتدخل في مرحلة تشكيل الحكومة، واتضح ذلك بعد توافد قادة سياسيين عراقيين إلى طهران في احتفالات عيد النيروز، وهي الزيارات التي تزامن معها إعراب نائب رئيس الجمهورية (السُني) طارق الهاشمي عن قلقه بشأن المحادثات التي تجريها قيادات سياسية عراقية بطهران “من أجل تشكيل الحكومة”. وما أثار الإنتباه إلى جدية ما صرّح به نائب الرئيس هو حضور الرئيس نفسه إلى طهران بعد أيام قلائل على إيفاده وزير خارجيته للقمة العربية في سرت الليبية (2010). وهذا الموقف يدلل كثيراً على مدى النفوذ الذي تمكنت إيران من الحصول عليه في العراق حتى تسبب في خروج تصريحات قوية من وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك حول محاولة إيران للتأثير على الإنتخابات العراقية[23].

     ولم تسلم الشئون الخارجية للعراق من التدخلات الإيرانية شأنها في ذلك شأن التدخلات في الشئون الداخلية، فقد اعترضت على الإتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة المتعلقة بتحديد وضع القوات الأمريكية وانسحابها من العراق، ولهذا اضطر المالكي للذهاب إلى طهران، في محاولة لطمأنة نظام طهران، والتعهد بأن ينص الإتفاق النهائي على منع الولايات المتحدة من مهاجمة إيران انطلاقا  من الأراضي العراقية.

ثانيا: الدور الأمني الإيراني في العراق

     لعبت إيران دورا كبيرا في المعادلة الأمنية في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، عن طريق دعم واستضافة مليشيات معارضة من أجل الضغط على العراق، ثم التقرب من التيارات الشيعية على وجه الخصوص وأجنحتها المسلحة، كما داومت طهران التعلل دائما في تدخلها بهذا الشكل إلى أسباب دينية تتضمن حماية المراقد المقدسة.

وأبقت طهران على حلفاء إستراتيجيين يمكنها الإعتماد عليهم في أوقات الضرورة، مثل ظهور داعش، إذ يصعب على الجيش العراقي وحده التصدي لمقاتلي داعش دون مساعدة قوات الحشد الشعبي التي تمثل المليشيات الموالية لطهران أساسها، و كانت إيران مضطرة لمواجهة مباشرة مع التنظيم المتشدد في حال لم يكن لها حلفاء الضرورة هؤلاء، وقد تأكد الدعم الإيراني لقوات الحشد الشعبي تلك بعد اعتراف وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي بالدعم الكبير الذي تلقاه هذه القوات من إيران[24].

المليشيات الشيعية: ويوجد في العراق العديد من المليشيات الشيعية والتي تحصل على أكثر تجهيزاتها وعتادها من إيران، ومن أبرز هذه المليشيات فيلق بدر والذي تكون في الثمانينات ويحارب ضمن قوات الحشد الشعبي في مواجهة داعش ويمثل جزء رئيسي فيها، وجيش المهدي وهو الأداة العسكرية التابعة لزعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر، وقد أنشئ بعد الغزو الأمريكي للعراق.

وينتشر عدد آخر من المليشيات الشيعية في العراق وهي وثيقة الصلة أيضا بإيران مثل عصائب أهل الحق وحزب الله العراقي، وتشارك هذه الفصائل في العملية ضد داعش، وقد تضاربت أعداد المقاتلين في التقارير المختلفة، ويبقى الشئ المؤكد أن هذه الفصائل قد سببت حرجا كبيرا لإيران كونها قامت بارتكاب جرائم بحق السكان السنة في الأماكن التي تم تحريرها كون طهران الداعم الأول لهذه المليشيات وكون قائد فيلق القدس – أحد كتائب الحرس الثوري الإيراني – القائد قاسم سليماني كان موجودا على جبهات القتال هناك،  قبل اغتياله في 03 جانفي 2020[25].

التواجد العسكري الإيراني في العراق: دأبت كلا من الحكومتين العراقية والإيرانية على نفي أي تواجد عسكري إيراني داخل العراق إلا فيما يتعلق بالمهام الإستشارية فقط، إلا أن الوضع لا يبدو كذلك بعد أن أوضحت العديد من المؤشرات دلائل قوية على تواجد عسكري إيراني بخلاف المليشيات المدعومة إيرانيا، فنجد قائد القوات البرية الإيرانية يتحدث عن عناصر رصد واستطلاع تابعة للجيش الإيراني دخلت إلى العراق بالتنسيق مع الحكومة العراقية، بالإضافة إلى حديثه عن تحليق مروحيات إيرانية فوق مناطق عراقية خاضعة لداعش[26].

    ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل نقلت الجزيرة عن موقع أوريكس العسكري الأمريكي رصده لدبابات وصواريخ إيرانية متجهة إلى معركة “تحرير تكريت”، وهي المعارك التي خاضتها القوات العراقية والحشد الشعبي منفردة دون غطاء جوي دولي، إلا مؤخرا، فيما بدا أنه بناءا على رغبة إيرانية في التقليل من أهمية الدور الأمريكي خصوصاً في مواجهة داعش.

    وجاءت المؤسسة التشريعية العراقية لتكشف بشكل كبير وجود مثل تلك القوات الإيرانية على الأراضي العراقية وذلك من خلال لجنة الأمن والدفاع التي أعلنت امتلاكها وثائق تثبت وجود ثلاثين ألف مقاتل إيراني في العراق على الأقل، وكذلك حديث رئيس مجلس النواب عن وجود عسكري إيراني “إستثنائي” في إطار المساعدة الرسمية ضد داعش وذلك خلال لقاء مع الوطن السعودية.

واثبتت الوقائع على الأرض قتل قيادات كبرى في الحرس الثوري الإيراني على جبهات القتال في العراق مثل الجنرال حميد تقوي وصادق ياري و قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني على الجبهة، مما يؤكد بلا شك حجم التواجد الإيراني في العراق.

 

المبحث الثالث:  آليات واستراتيجيات ادارة ومعالجة التعددية و الصراع الطائفي في العراق

     تطلب على الجميع تبني آليات جديدة و استراتيجيات جديدة لادارة و معالجة مشكلة التعددية الطائفية و الصراع الطائفي في العراق و هي الديمقراطية التوافقية و النظامين الفدرالي و الكونفدرالي.

المطلب الأول: تطبيق الديمقراطية التوافقية في العراق

      أسست الولايات المتحدة للمجتمع التعددي العراقي ومن ثم ضرورة أن يحكم بالشراكة بين الشيعة والسنة والأكراد، وهذا بتطبيق الديمقراطية التوافقية التي تعتبر من أهم المداخل التي تزود الطائفة بترتيبات مؤسسية للدفاع عن مصالحها، حيث تضمن لها المشاركة السياسية الفعالة من خلال الائتلاف الواسع الذي يضم قطاعات المجتمع التعددي، والنسبية مع إعطاء حق الفيتو المتبادل للأقليات[27].

والدستور العراقي 2005 لم ينص صراحة على الديمقراطية التوافقية، واكتفى على انه يراعي تمثيل سائر مكونات الشعب العراقي، وهذه المكونات نص عليها في ديباجة الدستور بقوله مستلهمين مراجع شهداء العراق شيعة وسنة، عربا وكردا وتركمانا[28].

وسيتم إسقاط مبادئ الديمقراطية التوافقية وتتبع تطبيقاتها في التجربة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي من خلال المؤسسات والآليات المعتمدة كما يلي:

أولا: الفيتو المتبادل:

ويتضح من خلال ما يلي:

أ‌-     مجلس الرئاسة: ويتكون من الرئيس ونائبين له، يمثلون الطوائف الرئيسية الثلاث ( السنة، الشيعة، الأكراد)، ويتخذ قراراته بالإجماع، يحظى كل عضو فيه بحق النقض لتعطيل التشريعات الماسة بالتوازن، غير أنه استثنی الطوائف الأخرى الصغيرة من حق النقض، هذا الأخير الذي جاءت به النظرية التوافقية في الأساس لحماية الأقليات من هيمنة الأغلبية، كما أن دوره تعطيلي فقط في نقض القوانين باعتبار أن البرلمان بإمكانه إقرار القانون بأغلبية الثلثين غير قابلة للنقض بدل الأغلبية البسيطة،  علاوة أنه عمليا انتهي العمل بمجلس الرئاسة بعد دورة برلمانية واحدة أي بعد 2005، ومن ثم يتم الرجوع إلى نظام رئيس الجمهورية بدلا من مجلس الرئاسة، كما دفع الأكراد في اتجاه إنشاء مجلس الإتحاد ومجلس النواب[29].

ب‌-التصويت على الدستور الدائم وتعديله: حيث يتم إقرار الدستور العراقي بالأغلبية، بشرط عدم رفضه من طرف ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر، وهذا ما يعرف بحق النقض الكردي باعتبار أنهم ينتشرون على ثلاث محافظات، فضلا على إمكانية إعماله من قبل الطوائف الأخرى إذا تشكلت أقاليم جديدة مستقبلا، أما فيما يخص تعديل الدستور فلا يجوز الإنقاص من صلاحيات الأقاليم إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني، علاوة على أن التعديل يجب أن لا يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر وفقا للمادة 142 من الدستور، وبالتالي فهذا فيتو للإقليم على تعديل الدستور[30].

ت‌- اشتراط الدستور تحقق الأغلبية الموصوفة: في بعض الموضوعات التي تعرض على مجلس النواب، والذي لا يتحقق إلا بمشاركة كافة المكونات، وهذا ما يعطي للأقليات حق النقض للقرارات فلا توافق إلا بعد الحصول على ضمانات لحماية حقوقها .

ثانيا:  تقاسم السلطة:

ويتضح من خلال:

أ- توزيع المناصب الرئيسية الثلاثة على الطوائف الثلاث الكبری، فرئاسة الجمهورية للكرد، ورئاسة الوزراء للشيعة ورئاسة البرلمان للسنة، رغم أن الدستور لم ينص على ذلك[31].

 ب. تعيين نائبين لكل منصب من المناصب الثلاث، يمثلان الطائفتين المتبقيتين والمختلفة عن شاغل المنصب، إلا أن هذا الإجراء ينتهي بالنسبة لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بعد دورة برلمانية واحدة بعد إقرار الدستور الدائم[32] .

ج- الائتلاف الواسع: جرى العرف على تشكيل حكومة ائتلاف تضم بالإضافة إلى الطوائف الثلاثة الكبرى الطائفتين التركمانية والمسيحية، ومن ثم تم تهميش الشبك والصابئة المندائيين والأيزديين، حيث تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي: 2003-2004 الذي يتكون من 25 عضو يوزعون وفق الصيغة التالية: الشيعة نصف واحد(13 عضوا أي 52%) والسنة والأكراد على 5 مقاعد لكل منهما (20% لكل منهما) والمسيحيين والتركمان على مقعد واحد لكل منهما( 4 % لكل منهما).

كما تم تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة: 2004_2005 التي ترأسها أياد علاوي على أسس طائفية حيث حصل الشيعة على 7 وزارات والسنة على 6 وزارات والأكراد كذلك حصلوا على ستة حقائب وزارية، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحيين، بينما بقيت 12 وزارة غير معروفة الانتماء، وما تجدر الإشارة إليه أن هذه الحكومة لم تمثل الأقليات الأخرى، كما أنها تشكلت بإشراف بول بريمر.

وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الحكم الانتقالي هو مجلس صوري باعتبار أن بول بريمر هو الحاكم الفعلي، كما أنه لم يقم بتمثيل الصابئة المندائيين والأيزديين والشبك، فضلا على غياب التطابق بين حجم الطوائف ونسبة تمثيلها في المجلس وفقا لإحصائيات 2003 بالرجوع إلى البطاقة التموينية، حيث أن السنة يشكلون 58% والشيعة 40% و2% بالنسبة للطوائف الأخرى، علاوة على أن أغلب أعضائه كانوا في المنفى، ومن ثم فليس لهم قاعدة شعبية بما فيهم ممثلي الطائفة السنية.

إلا أن العراق عرف أزمة التوافق بعد انتخابات 2005 حيث استغرقت عملية تشكيل الحكومة خمسة أشهر، وهذا من أجل إدخال جبهة التوافق السنية في تشكيل الحكومة، على الرغم من أن الإتلاف العراقي الموحد الشيعي والتحالف الكردستاني الحق في تشكيل الحكومة، فضلا عن توزيع المناصب السيادية بينها وهذا عرف توافقي[33].

فضلا على أزمة تشكيل الحكومة في 2010 التي تعثرت مشاوراتها بالرغم من مرور ستة أشهر من الانتخابات التشريعية والتي تعود إلى الضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية التي يواجهها البلد بعد سبع سنوات من الاحتلال، علاوة على تأثير المخططات الخارجية على العملية السياسية في العراق.

وبعد شد وجذب تم تعيين المالكي بناءا على مبدأ المحاصصة بين المجموعات الطائفية في العراق، حيث نال الائتلاف الشيعي على 48% من الوزارات، ونال التحالف الكردي16.2% من الوزارات في حين حصلت جبهة التوافق السنية على 8.1% من الوزارات كما حصلت القائمة العلمانية على 13.55 % .[34]

د-المجلس السياسي للأمن الوطني 2006: يترأسه الرئيس الكردي ويتكون من 19 عضو، تسعة من الشيعة وأربعة من الأكراد وأربعة للسنة، وعضوين لكتلة أياد علاوي، ويتخذ قراراته بأغلبية الثلثين، غير أن المجلس ذو طبيعة مؤقتة فقط يستمر لدورة برلمانية واحدة ولعل تقاسم السلطة جاء بهدف إشراك الطائفة السنية في العملية السياسية وعدم تهميشها لنبذ المقاومة، علاوة على الضغوطات الأجنبية لتحقيق هذه التوافقات.

ثالثا: النسبية:

 ويتضح من خلال النظام الانتخابي ومدى تمثيله لمختلف الطوائف استنادا الأحجامها العددية، ومن خلال توزيع المناصب داخل المؤسسات السياسية.

 أ- النظام الانتخابي: تم اعتماد نظام التمثيل النسبي بنظام القائمة المغلقة مع اعتبار البلاد كلها منطقة انتخابية واحدة، في انتخابات الجمعية الوطنية الانتقالية في 2005، أما في 2009 فتم تعديل قانون الانتخابات ليأخذ بنظام التمثيل النسبي على أساس القائمة المفتوحة ودوائر انتخابية متعددة، ونظام التمثيل النسبي يتناسب والتعدد الطائفي في العراق حيث يضمن تمثيل الأقليات في المجالس النيابية، حيث أنها منتشرة في دوائر متعددة وليس في دائرة واحدة، كما أن التمثيل النسبي يجعل إمكانية احتکار طائفة معينة للحكومة أمرا شبه مستحيل[35].

كما منح للطوائف التالية حصصا توزع مقاعدها على النحو التالي خمسة مقاعد للمسيحيين يتم التنافس عليها داخل منطقة واحدة مخصصة للمسيحيين، توزع على محافظات بغداد ونينوى وكركوك ودهوك وأربيل، مقعد واحد لليزيديين في نينوي، ومقعد واحد للصابئة في بغداد، ومقعد واحد للشبك في نينوي، ويتألف البرلمان من 325 مقعد منها 310 للمحافظات وثمانية للأقليات وسبعة مقاعد تعويضية وتوزع المقاعد على المحافظات وفقا لعدد السكان استنادا إلى إحصاء وزارة التجارة 2005 وفقا للبطاقة التموينية مع إضافة معدل نمو سكاني بـ 2.8%، ويلاحظ أن زيادة عدد المقاعد البرلمانية لبعض المحافظات قد تم بالتوافق بين الكتل السياسية وليس بالنظر إلى تعداد السكان الذي لم يتم إجراؤه منذ سنوات مما يجعله قرارا سياسيا وتوافقيا بين حجم ونفوذ الكتل السياسية[36].

ب- توزيع المناصب في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية: حيث تنص المادة التاسعة من الدستور الدائم على أن القوات المسلحة تتكون من مكونات الشعب العراقي، مع مراعاة توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء، كما منع الدستور تشكيل ميليشيات خارج الجيش العراقي، وهذا ما يعد تجسيدا لمبدأ التناسبية في التمثيل، إلا أن ما يلاحظ على أرض الواقع فهو التمثيل القليل للسنة في الجيش، كما أن قوات البشمركة متمركزة في الموصل، علاوة على نشر وحدات كردية وشيعية في المناطق ذات الأغلبية السنية بهدف إثارة التوترات الطائفية [37].

تقييم تطبيق الديمقراطية التوافقية في العراق: يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات حول التجربة الديمقراطية التوافقية في العراق من خلال مايلي:

       أن الحكم بالائتلاف الواسع لا يتناسب مع الأغلبية البسيطة، كون أن المادة 49 من الدستور تنص على أن القرارات في مجلس النواب تتخذ بالأغلبية البسيطة بعد تحقق النصاب، وتدل الممارسة العملية على أن سنوات 2007، 2009، 2012، شهدت انسحاب جبهة التوافق، والقائمة العراقية من الحكومة دون أن تؤدي إلى سقوطها وهذا ما يدل على عدم تحقق الحكم من خلال الائتلاف الواسع، كما أن الدستور أغفل تماما الحديث عن الفيتو المتبادل ماعدا الجملة المتعلقة برفض ثلثي ثلاث محافظات أو أكثر في حالة تعديل الدستور[38].

      كما يلاحظ عدم استفادة الطوائف الصغيرة من الترتيبات التوافقية، بما يضمن لها المشاركة في مؤسسات الحكم المختلفة، على الرغم من أن الدستور يضمن حقوقها الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية، وربما يعود ذلك إلى انحسار تأثيرها في العملية السياسية بسبب صغر حجمها.

كما أغفل الدستور الإشارة إلى التمثيل النسبي في التعيينات الإدارية، أو في القوات المسلحة خاصة في ظل غياب إحصاءات دقيقة للوزن الديموغرافي للمكونات الأساسية، أما خاصية الإدارة الذاتية في متحققة في إقليم كردستان وغائبة في المحافظات الأخرى، خاصة وأن رئيس مجلس الوزراء رفض طلبات تشكيل الأقاليم التي قدمتها محافظات صلاح الدين وديالى في مخالفة صريحة للدستور، وهو ما يجعل بعد الإدارة الذاتية بعيدا، كما حصر الدستور السلطات التنفيذية في يد مجلس الوزراء وليس في شخص رئيس الوزراء، لكن عمليا فرئيس الوزراء يحتكر السلطة التنفيذية بالكامل، والمحكمة الاتحادية شرعنت تجميع السلطات في السلطة التنفيذية، من خلال قرارها مثلا سحب سلطة التشريع من مجلس النواب ومنحها للسلطة التنفيذية[39].

      وهناك جدال حول الحفاظ على نظام الديمقراطية التوافقية وقاعدة المحاصصة التي جرى تثبيتها، أو تجاوزها والأخذ بقاعدة الديمقراطية المباشرة والتصويت بالأغلبية، فالأكراد هم المستفيد الأول من الاحتلال الأمريكي واعتماد الديمقراطية التوافقية لأنها تثبت مكاسبهم وفرضتهم طرفا قادرا على امتلاك حق الاعتراض، وهم حريصين على حل قضية كركوك من خلال فرض الديمقراطية التوافقية لفرض تكريد هذه المحافظة وضمها مستقبلا إلى الإقليم الكردستاني، أما الطوائف الأخرى فترى أن المحاصصة تثير النعرات الطائفية من طرف السنة الذين خسروا مكانتهم السياسية من جهة، ومن طرف التركمان والأشوريون الذين خصصت لهم مقاعد لا تتناسب مع نسبتهم العددية من جهة أخرى.

     وعلى هذا الأساس يمكن أن تتحول التعددية الطائفية في المجتمع العراقي الى انقسامات بسبب حرمان بعض الطوائف في المجتمع من حقوقها، سواء في مسألة المشاركة في السلطة أو في مسألة التوزيع العادل للثروة، وسيطرة النزعة الانفصالية على بعض الطوائف ورغبتها في تشكيل دولة، علاوة على تدخل العامل الخارجي سواء ما تعلق بالامتدادات الطائفية خارج الحدود السياسية، أو ما تعلق بالاحتلال الأمريكي الذي عمل على تفكيك العراق حيث تحولت معه التعددية إلى تعددية انقسامية.

 

 

 

المطلب الثاني : استراتيجية الفدرالية

     قبل أن نخوض في استراتيجية الفدرالية في العراق وجب علينا أن نعرف أن الفيدرالية تعنـي نظام توزيع الصلاحيات بـين حكـومتين أو أكثـر تمارسان السلطة على مجموعة من الناس أو علـى الإقليم الجغرافي ذاته.

      أو هو دولة توجد فيها حكومة مركزيـة وحكومـات إقليمية، حيث أن كلا من هذين المستويين من الحكم مستقل في مجاله عادة على وفق دسـتور مكتـوب يحميه، ويورد هـذا الدسـتور اختـصاصات كـل مستويات الحكم ، ويـضع عـادة ترتيـب لتنظـيم الصلاحيات المتبقية وتنسيق تداخل الاختـصاصات فضلا عن منح المسؤولية القضائية الـى محكمـة دستورية ومؤسسة أخرى لاتخاذ قرارات ملزمة وان المجلس التشريعي الوطني في الدولة الاتحادية يضم عادة مجلسا ثانيا تمثل فيه علـى نحـو مباشـر ومتساوي الأقاليم المكونة منها الدولـة الاتحاديـة وتــسمى الأقــاليم كانتونــات او جمهوريــات أو ولايات.[40]

      في عام 2005 أكمل المشرعون في العراق صياغة مسودة الدستور النافذ في هذا البلد، وعلى الرغم من الصعوبات والتحديات التي ترافقت مع هذه العملية، إلا أن المسودة أبصرت النور بعد أن صوت غالبية الشعب العراقي إلى صالحها، وهو ما عد  في حينه انتصارا حقيقيا لشعب خرج لتوه من عباءة الاستبداد وواقع تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، ويواجه إرهابا دمويا غذته أطراف داخلية وإقليمية، وهذا الدستور هو أول دستور شعبي حقيقي في تاريخ العراق الحديث، حرص مشرعوه على جعله مختلفا تماما عن الدساتير التي سبقته منذ عام 1925 ولغاية عام 2003، من حيث طبيعة الدولة وشكل الحكم فيها ومساحة الحقوق والحريات الممنوحة للعراقيين. فقد تحول العراق وفقا للدستور الجديد من دولة بسيطة إلى دولة مركبة تتبنى صيغة الاتحاد الفدرالي.

 

 

 

أولا: صيغة الفدرالية في الدستور العراقي.

       الفدرالية في الدستور العراقي  أكدت عليه المادة الأولى من الدستور التي ورد فيها: (جمهورية العراق دولة اتحادية واحدةٌ مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي،  وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق)[41].

 ثم جاءت بقية مواد الدستور لترسخ المنهج الفدرالي في الحكم من حيث اللغات الرسمية المعمول بها في البلاد ، وكون الدستور الجديد نافذا في كل أنحاء العراق، ولا يجوز سن دستور إقليمي يتناقض معه وتحديد مؤسسات الحكم الاتحادي: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية[42] ، والهيئات والمجالس الاتحادية ، وكيفية توزيع الاختصاصات بين الحكومية الاتحادية وحكومات الأقاليم ، والآليات الدستورية لتكوين الأقاليم الجديد في الدولة الاتحادية الناشئة [43].

     ولكي لا يدع المشرع الدستوري الباب مشرعا للجدل حول قضية احتمال أن يكون النظام الفدرالي نافذة لتقسيم العراق، فقد حسم هذا الجدل في المادة (109) التي نصت على أن (تحافظ السلطات الاتحادية على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي) لتكون كل رغبة أو دعوة داخلية للانفصال عن العراق أو تأسيس حكم لا ديمقراطي غير دستورية وخاضعة إلى طائلة العقاب والمنع من قبل السلطات الاتحادية وبكل الوسائل المتاحة. [44]

ثانيا: أسباب تطبيق الفدرالية في العراق و أهدافها.

     إن أهـم الأسباب القائمـة فـي الواقـع السياسـي والاجتمـاعي والثقـافي فـي العـراق والتـي تـدفع بالكثير من الكتاب والبـاحثين والمهتمـين إلـى تأييـد تكـريس الفدراليـة هـو شـيوع وتنـامي ظـاهرة الانقسـام الطائفي والقومي في المجتمع العراقي ، تلك الظاهرة التـي أخـذت تتسـع وتتصـاعد بشـكل خطيـر وملحـوظ، وأصـبحت جـزءا مـن الأمـر الواقـع المفـروض علـى وتيـرة الحيـاة اليوميـة فـي العراق اذ يكاد لا يخلـو أي حـديث ثنـائي أو جمـاعي يجـري فـي العـراق دون الإشـارة الصـريحة أو المبطنـة الى موضوع الانقسام أو التناحر الطائفي الذي أوجدته الظروف السياسية والاجتماعيـة المسـتجدة بعـد سقوط النظام السابق .

·         الانقسامات الاثنية والعرقية تحديات حقيقية إزاء العديد مـن الـديمقراطيات الناميـة ، ان لم تتم معالجتها بعناية ، فـان مثـل تلـك الصـراعات مـن الممكـن ان تـؤدي إلـى العـودة إلـى الدكتاتوريـة و إلــى الحــرب الأهليــة الداميــة .

·        من أجل الحد مـن  العنف الطائفي وجب تطبيق اللامركزيـة الفيدراليـة فقـد تـم تبنـي الفدراليـة فـي منـاطق شـهدت صـراعات سـابقة وذلـك  كحـل فـي أعقـاب النـزاع المسـلح فـي كـل مـن البوسـنة وجمهوريـة الكونغـو الديمقراطيـة وجنـوب أفريقيـا.

·        الفدرالية ساعدت على تقوية الديمقراطية وتخفيف الصراع الديني والاثني في بلدان عدة مثــل الهنــد ، وكنــدا ، وسويســرا  فــي جميــع تلــك الــدول ، فالأقليــات ذات الكثافــة الجغرافيــة قــد تصـالحت مـع نفسـها فـي الانتخابـات الديمقراطيـة علـى المسـتوى الـوطني لأن الفدراليـة قـد مكنـتهم مـن السيطرة على حكومات مناطقهم  ويستطيع العراق الاستفادة بصورة كبيرة من هكذا تنظيم.

·        إصرار جماعات وتيارات عـدة فـي العـراق علـى تطبيـق الفدراليـة ومـنهم أكـراد العـراق فـالكرد فـي سـعيهم المتواصـل ومنـذ سـنوات طويلـة مـن أجـل تحقيـق أهـدافهم، لا يوافقـون ولا يرضـون بعـد اليـوم بـالعودة إلـى الوضـع السـابق الـذي كـانوا عليــه فــي ظــل الحكومــات المركزيــة التــي توالــت علــى اضــطهادهم ، وهــم ألان مصــرون علــى تنفيــذ مطلـبهم فـي تطبيـق النظـام الفـدرالي الـذي يـوفر لهـم بصـورة قانونيـة ودسـتورية الحفـاظ علـى حقـوقهم ويلبي مطالبهم[45] .

·        شـيعة العـراق والـذين يشـكلون تقريبا الأكثريـة السـكانية فـي المجتمـع العراقـي فهـؤلاء يجـدون أنفسـهم قـد عزلـوا مــن المناصــب والوظــائف والمســتويات المهمــة فــي الدولــة لمرحلــة زمنيــة طويلــة بســبب سياســة التمييــز الطـائفي المتعمـدة ضـدهم مـن قبـل النظـام، وأكثـر مـن ذلـك فـأنهم يعتقـدون بـأنهم قـد نـالوا قـدرا هـائلا مـن الظلـم والاضطهاد والإقصاء السياسي والوظائفي والاقتصـادي وحرمـت منـاطقهم مـن التطـوير العمرانـي والحضـاري . وقد جرى كل ذلك تحت شعارات ومسميات مظللة كاذبة رفعتها السلطة لأكثر من ثلاثين عاما وهـم ألان بعـد تلك التجربة المرة غير مستعدين، لاسيما بعـد زوال النظـام، للعـودة إلـى الوضـع السـابق الـذي كـانوا عليـه مهمـا كانت النتائج ومهما كان الثمن[46].

و لهذه الأسباب يسعى بعض الساسة العراقيون لتطبيق نظام الفدرالية لتحقيق جملة من الأهداف نلخصها في:

ü     منع التفرد والاستبداد بالسلطة.

ü     ضمان الحقوق والحريات للأفراد والطوائف والقوميات والمكونات الاجتماعية العراقية المختلفة.

ü     التوزيع العادل لثروات البلد.

ü     تعزيز وحدة العراق من خلال ترسيخ روح المواطنة والانتماء الحضاري بين الشعب.

ü     تطوير كفاءة وديمقراطية الإدارة الحكومية.

ü      جعل الوثيقة الدستورية الأساس المتين لبناء نظام سياسي متزن ودائم وكفوء.

ثالثا: معوقات تطبيق الفدرالية في العراق.

إن تكوين الدولة العراقية الجديدة (دولة فدراليـة تعددية ديمقراطية ) وفق ما اقره العراقيون في دستور 2005 رافقته تحولات وتغيرات غير متوقعة علـى جميع الأصعدة السياسية والاقتـصادية والاجتماعيـة والاثنية وخاصة بعد الهجمة الارهابية الشرسة وما رافقها من انقسام سياسي وتناحر طـائفي واثنـي وفقدان الثقة بين السياسيين العراقيين ، كـل هـذه الصعوبات وغيرها أصبحت معوق كبير أمام تطبيق النظام الفيدرالي في العراق  وأبرز هذه الصعوبات هي:

v    ضــعف الــوعي الــسياسي والثقــافي الجماهيري، وحداثة التجربة الديمقراطية والفيدرالية في العراق ، جعل كثير من الشرائح لا تدرك مميزات النظام الفيدرالي ، لان معظم وسائل الاعلام العربيـة والمعارضين لفكرة الفيدرالية ركزوا على سـلبياتها وصوروها على انها سلعة اجنبية جلبها الاحتلال مع ما جلبه من صراع داخلي واضطراب أمنـي وأدى الى تاجيج الطائفية فضلا عن ما رافقه من موجـة ارهابية لم يشدها تاريخ العراق[47].

v    إقرار النظام الفيدرالي في العـراق أعاد إلى حضن الوطن إقلـيم كردسـتان وقناعـة الإخوة الأكراد بالبقاء كجزء أساسـي مـن الدولـة العراقية فهي رغبـة أملتهـا علـيهم الجغرافيـة السياسية لإقليم كردستان ، فالوضع الدولي المحـيط بالإقليم لا يسمح ولا يرغب بتكوين دولـة كرديـة مستقلة، خوفا من انفصال المنـاطق الكرديـة فـي دولهم.

v    العامل الاقتصادي من اكثـر الصعوبات غير المعلنة التي يتخوف منها كثير مـن العراقيين عند تطبيق النظام الفيدرالي لان التوزيـع الجغرافي للموارد والثروات الطبيعية فـي العـراق يتباين مكانيا ً فهناك مناطق غنية بـالنفط والغـاز الطبيعي وهما مصدر المال والغنـى والثـروة فـي الاقتصاد العراقي ، فالمناطق الفقيرة تتخـوف مـن استئثار الاقاليم الغنية بـالنفط بثرواتهـا وبالتـالي حرمان سكان المنـاطق الفقيـرة والـذين تبطنـت مواقفهم السياسية برفض الفيدراليـة بالـشعارات الوطنية.

v    الثغرات الدستورية التي ترجح كفة حكومـة الاقاليم على الحكومة الاتحادية كما ورد في المـادة 115 والتي تجوز في حالة حصول تعـارض بـين القانون الاتحادي وقانون الاقلـيم فيجـوز تعـديل القانون الاتحادي ، لذا فان هذه الفقرة مخالفـة لمـا استقر عليه دوليا في كل الدول الاتحادية ، كمـا ان الفقرة رابعا من المادة 121 قد اجـازت تأسـيس مكاتب للأقاليم والمحافظات في السفارات والبعثـات الدبلوماسية بمعنى ان هذه الفقرة تمـنح للأقـاليم والمحافظات حق التمثيل الدبلوماسي الـى جانـب السلطة الاتحادية[48].

v    المحيط الإقليمي وبخاصة دول الجوار فهي تخاف من التجربة الديمقراطية الفتية في العراق وبخاصة تطبيق النظام الفيدرالي الامـر الـذي يدفعها الى التدخل بشكل مباشر وغيـر مباشـر في تقويض التجربة العراقية اعلاميا و سياسيا.

v    الـسياسية العراقية غير مناسبة لتطبيق الفدراليـة نتيجة للانقسام السياسي الحاد وفقدان الثقة بين الكثير من اطراف العمليـة الـسياسية فهنـاك احزاب وحركات سياسـية اسـلامية واخـرى علمانية قومية او ليبرالية وهي منقسمة علـى نفسها لأسباب طائفية او اثنية، همهـا اصـبح الحصول على المناصـب وتحقيـق المكاسـب السياسية واثبات وجودها وثقلها على الـساحة السياسية حتى وان استخدمت الورقة الطائفيـة والاثنية[49].

المطلب الثالث: استراتيجية الكونفدرالية في العراق.

يعد المدخل الكونفدرالي من أهم الاستراتيجيات الطويلة الأمد لإدارة التعدد الطائفي في العراق، حيث يقسم العراق إلى ثلاث مناطق منفصلة شيعية في الجنوب وسنية في الوسط وكردية في الشمال، ويتزامن مع تزايد التهجير القسري ذي البعد الطائفي الذي يصب في إطار المشروع الأمريكي الرامي إلى تقسيم العراق.

أولا: تأسيس الكونفدرالية في العراق.

      أكاديميا كانت هناك مجموعة من الدراسات الأمريكية حول تقسيم العراق كوثيقة كارينجي عام 1957 التي طرحت إنشاء دولة كردية في شمال العراق، ودولة شيعية في جبل عامل ومارونية في لبنان، كما اقترح "برنارد لويس" في 2002 تقسيم الشرق الأوسط إلى ثلاثين دولة، ويتضمن تفكيك العراق إلى ثلاث دويلات بحسب الطبيعة السكانية وحسب الانتماءات الطائفية [50]، بالإضافة إلى دراسة "جوزيف بایدن" و "ليسلي جيلب" التي تركز على إنشاء ثلاثة أقاليم في العراق مع ترك أمن الحدود وتوزيع عوائد النفط للحكومة المركزية بهدف وقف إراقة الدماء وإنهاء المعاناة من خلال تعزيز تقاسم السلطة، كذلك دراسة "ادوارد جوزيف" و"مايكل اوهانلون" من معهد بروكينجز بعنوان حالة التقسيم السهل في 2007 تقدم مجموعة من السيناريوهات العملية لتنفيذ التقسيم، برسيم الحدود باستخدام الحواجز الطبيعية وتوزيع الثروة النفطية حسب عدد سكان كل إقليم، مع إسناد العملية للجامعة العربية والأمم المتحدة، مشيرة إلى صعوبة الفصل الجغرافي بسبب الزواج المختلط بين السنة والشيعة، والرفض القبلي من بعض العشائر، ورفض دول الجوار.

     وما يلاحظ على هذه الدراسات أنها أمريكية بالأساس، وتتفق على أن التقسيم هو هدف نهائي في حين تختلف حول إمكانية تطبيقه في الوقت الحالي، وتصب في إطار خدمة الأهداف الأمريكية من ضمان الإمدادات البترولية وتفتيت المنطقة بنقل التجربة إلى دول أخرى تعيش نفس التعددية.

     أما التأسيس القانوني للكونفدرالية في العراق  فيمكن استخلاصها من نصوص الدستور العراقي التي تنص بعض مواده على النظام الكونفدرالي أكثر من النظام الفدرالي فضلا عن نصوص دستور كردستان.

      فدستور إقليم كردستان يقر بانفصال إقليم كردستان عن العراق، علاوة على سمو قانون كردستان على القانون الاتحادي، وعمليا فإقليم كردستان هو المهيمن على أفراده بوجود قواته وليس القوات الاتحادية[51]  أما الدستور العراقي 2005 فهو اتحاد فدرالي بخريطة كونفدرالية حيث أنه:

 

ü     تم منح حق التمثيل الخارجي للأقاليم في السفارات والبعثات الدبلوماسية وفي جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإنشاء قوات عسكرية خاصة بالإقليم، في حين أن ذلك يدخل ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية في الأنظمة الفدرالية الناجحة في سابقة خطيرة لدى التجارب الفدرالية.

ü     قام بتحديد سلطات المركز مقابل عدم تحديد سلطات الأقاليم، مع الإقرار بأولوية وسمو قانون الأقاليم على القانون الاتحادي في حال التعارض بينهما في سابقة في تاريخ الأنظمة الفدرالية، وهنا يطرح السؤال حول الغاية من إضعاف المركز وزيادة قوة الأقاليم إن لم يكن الاستقلال مستقبلا.

ü     زيادة هيمنة الأقاليم على الثروات الاستراتيجية على حساب المركز يمثل بداية المشاريع دويلات ستظهر في الأقاليم المنتجة للنفط، حيث منح الدستور صلاحية استخراج النفط والغاز من الحقول الحالية المستغلة للحكومة الاتحادية والأقاليم المنتجة له، في حين خص الأقاليم فقط في استخراج النفط من الحقول المستقبلية.

ü     إخضاع توزيع المياه إلى القانون الدولي داخل العراق وهو ما يمكن تفسيره على أنه اعتراف ضمني بتقسيم العراق إلى وحدات دولية[52].

ü     الخلل وعدم التوازن بين المركز والأطراف، حيث يلاحظ هيمنة واستبداد الأطراف بالمركز، وهي صيغة مخالفة لتطبيقات الفدرالية في العالم التي جاءت لتحقيق التوازن في توزيع السلطات والاختصاصات، وهو ما يؤسس لإعادة إنتاج استبداد جديد هو دكتاتورية الأطراف على المركز.

وعليه فالدستور العراقي صمم بهذه الصيغة لفرض عراق مقسم إقليميا مع حكومة ضعيفة اتحاديا، وهذا ما يضعف الدولة العراقية ويهدد وحدتها الوطنية، ويمهد للانفصال مستقبلا كتحصيل حاصل، خاصة وأنه يمنح الأقاليم إطارا قانونيا لتحاجج به من أجل الانفصال، لا سيما في ظل غياب الضمانات التي تمنع الأقاليم - وهي الأقوى من المركز من الانفصال مستقبلا عن الحكومة المركزية؟ باعتبار أنها تتمتع بجيش داخلي وتمثيل خارجي و موارد مالية خاصة، وربما هي الغاية التي استهدفها المؤسس الدستوري بتغليبه سلطات الأقاليم على سلطات المركز.

ثانيا: واقع الكونفدرالية العراقية.

     يكشف الواقع أن هناك بوادر لاستقلالية كردستان، والعلاقة بين الحكومة الإقليمية والحكومة الاتحادية هي علاقة بين دول مستقلة [53] ، حيث يسمح دستور كردستان بعقد اتفاقيات مع الدول الأجنبية رغم أن صنع السياسة الخارجية من اختصاص السلطات الاتحادية في الدول الفدرالية، كما أن الدستور يسمح بإنشاء قوات دفاعية لحراسة الإقليم، رغم أنه من اختصاص السلطات الاتحادية، فضلا عن تقييده لعملية دخول القوات الاتحادية إلى إقليم كردستان وعملية إرسال قوات البشمركة إلى خارج إقليمها بموافقة رئيس وبرلمان كردستان استنادا إلى المادة 65 من الدستور[54]، فضلا عن أن العراقيين الراغبين في زيارة إقليم كردستان فعلیهم الحصول على تصريح من السلطات الكردية، كما رفضت كردستان النشيد الوطني العراقي ورفضت رفع العلم العراقي في إقليمها ورفعت علم ماهاباد[55]، كما تتوافر على نظام تعليمي وإعلامي خاص بها كذلك.

     كما أن الأكراد يعملون على اتخاذ إجراءات توحي بأن الإقليم كيان مستقل وذو سيادة، ومثال ذلك التعامل المباشر مع الدول الأجنبية دون علم السلطات العراقية، كإرسال الوفود إلى الخارج واستقبال الوفود وتوقيع الاتفاقيات، وفتح تمثيليات دبلوماسية في العديد من الدول منها الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية والعديد من الدول الأوروبية[56]، علاوة على وجود منسق لحكومة الإقليم في الأمم المتحدة والدعوة إلى إنشاء مكتب الشؤون الإقليم في بغداد  ، فضلا عن إقامة علاقات عسكرية وعقد صفقات تسلح مع الدول الأجنبية دون العودة للسلطة المركزية، وإبرام عقود نفطية مع شركات أجنبية، مع إقرار قانون نفط وغاز خاص بها قبل إقرار قانون النفط الاتحادي، كما أن الزائر من تركيا إلى كردستان يقوم بفحص وثائقه مسؤولون في حكومة كردستان دون اعتبار لمتطلبات تأشيرة الدخول العراقية.

وعليه، تدل هذه التصرفات كلها على أحد احتمالين، الاحتمال الأول يدل على أن كردستان في طريقه إلى الانفصال عن العراق، أما الاحتمال الثاني فيدل على أن العراق هو اتحاد كونفدرالي وليس فدراليا ولعل هذا ما قصده المؤسس الدستوري في عدم تحديده لطبيعة الاتحاد.

ثالثا- الصعوبات و التحديات التي تواجه الكونفدرالية في العراق:

     يصطدم الطموح الكردي بالانفصال بحجم الانقسامات الكردية وبالانحباس الجغرافي للإقليم، فضلا عن الرفض الداخلي والإقليمي للمطلب، والموقف الأمريكي المتردد من استقلال كردستان العراق.

فالسنة والشيعة والتركمان اتفقوا في موضوع منع استقلال كردستان متجاوزين في ذلك خلافاتهم الطائفية، ومثال ذلك دعمهم عملية إجبار البيشمركة من الانسحاب من خانقين في 2008، ونشر قوات الجيش العراقي في كركوك، علاوة على الطابع المختلط للمدن المتنازع عليها والتي قد تؤدي إلى تطهير طائفي وينفجر النزاع مجددا بين مختلف الطوائف.

    وترفض دول الجوار التقسيم خوفا من انتقال الظاهرة إليها، حيث ترفض تركيا تقسيم العراق لما له من انعكاسات على الوحدة الوطنية التركية، وتعمل على حماية الوحدة العراقية، وتعزيز إشراف الحكومة المركزية على الثروات النفطية، وحماية حقوق التركمان في كركوك، ومنع انفصال كردستان بما لها من أوراق للتأثير في ذلك[57]، كفرض العقوبات الاقتصادية (وقف تموينه بالكهرباء ووقف أنبوب الغاز الذي يمر عبر أراضيها)، واحتفاظها بقواعد عسكرية في شمال العراق، والتهديد باستخدام القوة المسلحة إذا أعلنت استقلالها، علاوة على توظيف الورقة التركمانية.

     كما ترفض كل من السعودية والكويت عملية تقسيم العراق، باعتبار أن ذلك يعزز النفوذ الإيراني في العراق وتمدده إلى منطقة الخليج بصفة عامة خاصة في ظل وجود أقليات شيعية في هذه الدول، ويشجع الأقلية الشيعية على المطالبة بالانفصال أو الحكم الذاتي في الكويت التي تشكل 30%  من السكان، وفي السعودية التي تتمركز في إقليم الأحساء الغني بالنفط وتعاني من الحرمان السياسي والاقتصادي والتميز الديني.

     أما إيران، فترغب في إقامة كونفدرالية عراقية ضعيفة تقوم على أسس دينية تهيمن فيها على الجنوب العراقي حيث دعمت عبد العزيز الحكيم في دعوته لإقامة فدرالية شيعية في العراق لتعزيز موقعها في المنطقة، وتضبط التطورات في الشمال الكردي لأن قيام دولة كردية في شمال العراق يساعد على زيادة الرغبة الانفصالية لدى أكراد إيران الذين يمثلون 10% من السكان ، كما تعمل على دعم حكومة مركزية قوية وصديقة يسيطر عليها الشيعة الموالون لطهران لمنع ظهور عراق جديد مهدد الإيران ، والإشراف على إدارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية علاوة على الإشراف على المدارس[58].

وتجدر الإشارة إلى أن هناك تطابقا بين المشروع الأمريكي للفدرالية والدستور العراقي الدائم، حيث يسمح الدستور العراقي بدخول قوات عسكرية بموافقة برلمان كردستان كما يمنحها حق التمثيل الدبلوماسي وهذا طرح كونفدرالي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خلاصة الفصل:

     عقب التطرق لأثر و انعكاسات التعددية الطائفية على الأمن المجتمعي في العراق بعد الاحتلال الأمريكي نجد أنه (أي الاحتلال الأمريكي)  سعى إلى تعزيز التعددية الطائفية و كان له علاقة شديدة الإيجابية بتعزيز العنف بين الطوائف الثلاثة الكبرى (السنية، الشيعية، والكردية)، مما أثر ذلك سلبا على الأمن في المجتمع العراقي وزاد من حالة اللااستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العراق، حتى أن وصل الأمر إلى إشتعال حرب طائفية عنيفة بينهم.

      وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية أنها قادمة لتطبيق الديمقراطية التوافقية ومحاربة الإرهاب، لكن فيما بعد تم إثبات زيف ذلك، وأن الديمقراطية ليست هي الهدف، وكان نظام المحاصصة لتحقيق الديمقراطية التوافقية يعد أمرا غير مقبولا دائما من جانب الشعوب. و الأمر سيان في الحالة العراقية، حيث أن ذلك النظام هو المساهم في إندلاع الحرب الأهلية في عام 2006، بعد وضعه في الدستور العراقي عام 2005، وهذا أكبر دليل على خطأ الولايات المتحدة في تطبيقه أو صنعه من الأساس، ولكن قد يكون هذا النظام مقبولا بين أطياف الشعب العراقي في حالة تم وضعه من قبل الشعب نفسه، حيث قد يكون الرفض له لمجرد أن من وضعه هو الإحتلال.

     كما أن تطبيق استراتيجية الفدرالية و الكونفدرالية المبني على التعددية الطائفية باء بالفشل الذريع ، و يبقى الحل الأمثل لتحقيق الأمن المجتمعي في العراق يتطلب تطبيق ديمقراطية لا تقوم على نظام المحاصصة في الحكم لكي لا تستغلها بعض الأطراف في تأجيج الوضع و زيادة الشرخ بين الطوائف المتعددة التي تسعى للانفراد بالحكم و تحقيق مصالحها الضيقة على حساب المصلحة العليا للدولة العراقية.



[1]  جابر حبيب جابر، الأسوأ من المحاصصة، صحيفة الشرق الاوسط، العدد (11247) 13ايلول . 2009. نقلا عن سعدي ابراهيم ، عدم الاستقرار السياسي في العراق، ورقة بحثية منشورة على موقع https://dergipark.org.tr/ ص 45.

[2]  سمير أمين، الاقتصاد السياسي للتنمية، ط1 ، دار الفرابي، بيروت، 2006، ص 11.

[3] تداعيات الطائفية على بناء الدولة العراقية المعاصرة، مرجع سابق، ص 66.

[4] مشى العبيدي، اختيارات فادحة، الحواضن الطائفية في العراق، تجليات العنف و أزمة المواطن، مركز الروابط للبحوث، و الدراسات الإستراتيجية و السياسية، مقال منشور على موقع: https://rawabetcenter.com/archives/7123  تاريخ الاطلاع: 13/05/2022 على الساعة: 22:26.

[5] مثنى العبيدي ، المصدر السابق.

[6]  حسنين توفيق ابراهيم، ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة اطروحات الدكتوراه، ط 2 ، بيروت ص 24.

[7]  عبد الله جمال حسني يوسف، أثر الاحتلال الأمريكي على العنف السياسي الطائفي في العراق، كلية العلوم الاقتصادية و السياسية، جامعة القاهرة، يوليو 2019، ص 78.

[8]  خضر عباس علوان، “مستقبل ظاهرة العنف السياسي في العراق، المستقبل العربي، العدد 330، 2006، ص 32.

[9]  جيمس غلانز، “أعداد الضحايا في العراق، المستقبل العربي، العدد 370، 2009، ص 157.

[10]  تقرير حقوق الإنسان بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق من 1 يناير – 28 فبراير 2006، ص 7.

[11] مختار لاماني، “الأقليات في العراق الضحية الأخرى، المستقبل العربي، العدد 369، 2009، ص 163

[12] عمر كمال وأخرون، “مساجد في وجه النار، مركز الرشيد للدراسات والبحوث، بغداد، 2006، ص 238.

[13]  ديباجة دستور العراق الدائم، نقلا عن عبد العظيم جبر حافظ من رسالة ماجستير بعنوان التحول الديمقراطي في العراق بعد 2003، جامعة النهرين، كلية العلوم السياسية، العراق، 2012، ص 241.

[14] المادة رقم 03 من دستور العراق الدائم، المصدر نفسه.

[15]  دستور العراق الدائم، المادة 9، أولا/أ، المصدر نفسه.

[16]  دستور العراق الدائم، المصدر نفسه.

[17]  ياسر خضير البياتي، “تفكيك المشهد العراقي: مفخخات الطائفية والسياسية والإعلامية، مجلة المستقبل العربي، العدد 345، نوفمبر 2007، ص ص 53 – 59

[18]  أحمد عاطف طه، “مشروع تقسيم العراق الدلالات والتداعيات المحتملة، مجلة شؤون خليجية، العدد 52، شتاء 2007، ص114.

[19]  جوناثان ستيل، “العراق: طريق الخروج، مقال منشور على موقع: المركز العربي الديمقراطي، https://democraticac.de/  بتاريخ: 15 جويلية 2019، تاريخ الاطلاع: 06/06/2022، على الساعة 00:28.

[20]  ياسر الزعاترة، تحويل السنة إلى طائفة، مقالات قناة الجزيرة الاخبارية ، https://www.aljazeera.net/opinions  بتاريخ: 16/06/2015.نفس تاريخ الاطلاع.

[21]  صلاح عبد اللطيف، التدخل الايراني في العراق-التاريخ و الواقع و المستقبل، دار الأنوار للنشر و التوزيع، 2012، ص 43.

[22]  صلاح عبد اللطيف، المرجع السابق، ص 44.

[23]  علي رضا نادر، الدور الذي تضطلع به إيران في العراق، دراسة برعاية وزير الدفاع في مركز سياسات الدفاع و الأمن الدولي التابع لمعهد أبحاث RAND للدفاع الوطني منشور على موقعك https://www.rand.org/ .

[24]  صلاح عبد اللطيف، المرجع السابق، ص 45.

[25]  www.marefa.org ، تاريخ الاطلاع: 07/06/2022 على الساعة: 10:23.

[26]  ياسر الزعاترة، المصدر السابق.

[27] الطائفية في العراق  مقاربات في الجذور و سبل الخروج من المأزق، مرجع سابق ، ص 192.

[28] محمود الشناوي، العراق التائه بين الطائفية و القومية، هذا ما جرى بعد الصدمة و الرعب، المرجع السابق، ص 94.

[29] عادل بن عمر،الديمقراطية التوافقية و إدارة التعدد الطائفي في العراق، مصدر سابق.

[30] المسألة الطائفية و صناعة الأقليات في الوطن العربي، المصدر السابق.

[31] السلطة في العراق، مقال منشور على مدونة معرفة الالكترونية، https://www.marefa.org/ تاريخ الاطلاع : 14/05/2022 على الساعة 11: 14.

[32] عقيل عباس، معضلة التداول السلمي للسلطة في العراق و خيارات الاحتجاج، مقال صحفي منشور على الصفحة الرسمية لقناة سكاي نيوز عربية بتاريخ 03 ديسمبر 2020. على الساعة : 20:21 بتوقيت أبو ظبي، تاريخ الاطلاع: 13/05/2022 على الساعة: 23:46.

[33] عادل بن عمر،الديمقراطية التوافقية و إدارة التعدد الطائفي في العراق، مصدر سابق.

[34] محمود الشناوي، العراق التائه بين الطائفية و القومية، هذا ما جرى بعد الصدمة و الرعب، المرجع السابق، ص 100.

[35] عادل بن عمر،الديمقراطية التوافقية و إدارة التعدد الطائفي في العراق، مصدر سابق.

[36] الطائفية في العراق  مقاربات في الجذور و سبل الخروج من المأزق، مرجع سابق ، ص 61.

[37] عبد الخالق حسين، الطائفية السياسية و مشكلة الحكم في العراق، مرجع سابق، ص 59

[38]  عادل بن عمر المرجع السابق، ص 401.

[39]  يحي الكبيسي، العراق: الاحتجاجات و أزمة النظام السياسي، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الدوحة، 2013، ص 19.

[40]  أحمد عطية الله السعيد، المعجم السياسي الحديث، انكليزي/عربي، بيروت، 2003، ص 14.

[41]  المادة الأولى من الدستور العراقي.

[42]  المواد: 47، 48، 65، 89 من الدستور العراقي.

[43]  المواد: 110 ، 111 ، 113 ، 114 ، 115 من الدستور العراقي.

[44]  خالد عليوي العرداوي، الفدرالية ضمانة للوحدة و الديمقراطية في العراق، مركز الدراسات الاستراتيجية، جامعة كربلاء، 2015، منشور على موقع: http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq/ تاريخ الاطلاع: 08/06/2022.

[45]  رضا عبد الجبار الشمري و اياد عابد الديري، امكانية تطبيق النظام الفدرالي في العراق، مجلة القادسة في الآداب و العلوم التربوية، المجلد 08، العدد 04، 2009، ص 128.

[46]  رعد القادري، الفدرالية و مأزق العراق الدستوري، ورقة بحثية منشورة على موقع: https://www.chathamhouse.org/ تاريخ الاطلاع: 10/06/2022، على الساعة: 14:37.

[47]  عبد العظيم جبر حافظ، جدل الفدرالية في العراق، مؤسسة ثائر العصامي للنشر و التوزيع، 2017، ص 96.

[48]  رفيق سليمان الفدرالية و مشكلاتها في العالم المعاصر، الامارات العبية النتحدة و العراق-اقليم كردستان، المركز الديمقراطي العربي، 2021، ص 12.

[49]  نعمان منى، قراءات في الدستور العراقي و مأزق الدستور ، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد، 2009، ص 157.

[50]  أحمد فهمي، صراع المصالح في بلاد الرافدين، سلسلة كتب البيان، عدد 85، القاهرة، دار الكتب المصرية، 2008، ص 160.

[51]  ايمن ابراهيم الدسوقي، هل القومية الكردية انفصالية؟، دراسة حالة كردستان العراق، المستقبل العربي، عدد 357، نوفمبر 2007، ص 141.

[52]  مجلس الفكر العربي، العراق بعد الاستفتاء على الدستور: الاشكاليات و التداعيات المحتملة، ص 71.

[53]  شادي أحمد محمد عبد الوهاب منصور، أثر الطائفية على النظام السياسي، دراسة حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الاقتصاد و العلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2009، ص 122.

[54]  بيترو غالبريث، مرجع سابق، ص 116.

[55]  جمهورية مهاباد تأسست في أقصى شمال غرب إيران حول مدينة مهاباد التي كانت عاصمتها، وكانت دُويلة مدعومة سوفييتياً كجمهورية كردية أُنشأت سنة 1946 ولم تدم أكثر من 11 شهراً

[56]  قحطان سليمان الحمداني، مرجع سابق، ص 36.

[57]  اسلام جوهر و محمد شادي، مرجع سابق، ص ص 44-45.

[58]  محمد السعيد ادريس، ايران و بناء الدولة العراقية، المصالح و السياسات الدولية، عدد 162، مجلد 40، أكتوبر 2005، ص ص 74-75.

NameEmailMessage